أوَّل شيء لاحظه هو الصمت. جلس على المقعد الخلفي في التاكسي، الذي ابتعد عن مطار “دبلن” واتخذ طريقًا سريعًا لا يتذكره. وعلى يمينه ويساره سيارات وسائقون جامدون مثل الدمى. فكَّر في طريق مومباي السريع؛ كل يوم، ينظر الناس من نوافذ السيارات ويشكون أو يتضرعون إلى السماء. ارتفعت أبواق السيارات الغاضبة، وبطريقةٍ ما، بدت كل تلك الضوضاء المتبرمة التي تكاد تفجر الرأس، كأنها احتفال بشيءٍ ما.
تعلَّم فرانك ألا يتوقع حال الطريق السريع في الهند، حيث يتكوَّم الشباب الصغار على الموتوسيكلات ويتعثر الرجال كبار السن ذوو الوجوه الصلبة في الأمتعة أعلى الباصات، ولكن ما لم يتوقعه هنا هو هذا الفراغ.
تملكه شعور بأنهم يسيرون في الطريق الخطأ، وعندما ظهرت لافتة تشير إلى “باليمون”، تساءل ما إذا كان السائق لم يسمعه جيدًا. فكر في أن يسأل السائق، ولكنه لم يرِد أن يبادر بإنهاء هذا الصمت. في المطار، في الوقت الذي كان يضع فيه أمتعته داخل التاكسي، كانت كلمة واحدة كافية لبدء محادثة، ولكنهما تبادلا نظرة في بضع ثوانٍ معدودة، اتفقا خلالها أن يترك كل منهما الآخر وشأنه.
على أية حال، كان يتوقع النزول عبر قرية “درمكوندرا”، تخيل كل ما سيكون؛ الأشجار ترافقه على الجانبين، والظل يتسرب من بينها على الطريق. سيرى الجزء السفلي المضلع من كوبرى السكك الحديدية ثم مزيجًا من لافتات المحلات والحانات يظهر في شارع “دورسيت”، حيث تزداد حدة الضوء فجأة. كان يتطلع إلى حدٍ ما إلى أن يلعب مع نفسه لعبة “اكتشف التغييرات”.
حينها، تذكر شيئًا حدث له في أثناء طفولته في الطابق العلوي من الباص مع والدته. كانوا في طريقهم إلى المطار، ليس من أجل السفر إلى مكان بالطبع، ولكنها إحدى النزهات التي كانت تبتكرها لترفه عنهم في العطلات المدرسية. قضوا اليوم هناك يتسكعون ويحدقون إلى مهبط الطائرات عن طريق نوافذ صالة المراقبة الكبيرة، أو يقرؤون لوحة وجهة الطائرات الكبيرة ويلتقطون أسماء الطائرات التي تذكرهم بعض الشيء بدروس الجغرافيا التي لا ينصتون إليها جيدًا. وأحيانًا، كانوا يقفون خارج الكافيتريا ولعابهم يسيل على قائمة الطعام، حيث سألت “سوزان” يومًا لماذا لا يستطيعون الدخول، فشرحت لها “ميريام” بحسم: “لأنها للأثرياء فقط”.
أحبت “ميريام” الأثرياء، هؤلاء الركاب بتسريحات الشعر الأنيقة ويرتدون ملابس متناسقة. لم يكن لدى “جوني” وقت لهم. قال “جوني”:
– إنهم يحبون جذب الانتباه للغاية ويحركون تذاكرهم في الهواء في كل أنحاء المكان، كما لو كانوا يعتقدون أنهم يبلون كما هو المطلوب بالضبط.
ولأن “جوني” كان يشعر بذلك، كانت “سوزان” و”فرانك” يشعران مثله أيضًا. على أية حال، كانوا يفضلون مشاهدة الطيارين والمضيفات الذين كان مظهرهم كما هو مفترض به أن يكون. يروحون ويجيئون بالمطار، وحقائبهم الغامضة تتدلى من أكتافهم، ويبدو عليهم كما لو أنهم يفكرون في أمور شديدة الأهمية. كانوا يبدون مهندمين للغاية كما تقول أمه دائمًا.
في الطابق العلوي من الباص، كان الأطفال الثلاثة راكعين على ركبهم ينظرون من النافذة الخلفية الطويلة، وأمه تجلس على كرسي صغير في الخلف. بدا انعكاس رأسها في زجاج النافذة شفافًا كما لو كان شبحًا. كان يلتفت إلى الخلف ليتأكد من أنها ما زالت هناك برأس صلب وشعر بني حقيقي فوقه. كانت يداها في وضعهما المعتاد: يدها اليمنى للتدخين واليسرى لأطفالها، لتمنع أحدهم من الوقوع أو لتمسح أنف أحدهم أو تصفع أحدهم، تبعًا لما يحدث.
في أثناء النزهة، حمل كيسين بلاستيكيين لافًا يديهما مرتين حول معصمه. كان حذرًا في الإمساك بهما ومهتمًا بذلك للغاية، لأن “سوزان” في المرة الأخيرة التي أمسكت فيها بالأكياس، نسيتها في موقف الباصات. النبض في رسغه كان منخفضًا وكانت يدا الكيسين ملفوفتين بشدة على معصمه، والرائحة السيئة لسندويتشات البيض مختلطة بأدخنة الباص جعلته يشعر بالتعب والجوع معًا.
في هذه الذكرى، لم يرَ “سوزان”، أخته الكبرى، مما أزعجه الآن كما أزعجه وقتها. كان هناك ارتياح لعدم وجودها معهم، فهي تثير أعصاب أمه وتعكر الجو العام باستمرارها في أفعالها المثيرة للغضب. لكنه ما زال يفتقدها. كانت تُعاقب على الأرجح، أو تترك عند إحدى الخالات الصارمات أو تُحتجز في غرفة المخزن طوال اليوم، أي تُعاقب بالإقصاء، لأن أمه كانت غالبًا تقول: “إن صفع “سوزان” مجرد مضيعة للوقت”، ولكن ذلك لم يوقفها عن أفعالها مطلقًا.
هكذا كانت الذكرى، بلا بداية وبلا نهاية، سواء كانت تعني القليل أو لا تعني شيئًا على الإطلاق، مع ذلك ما زالت تسيطر على مشاعره.
مال “فرانك” إلى الأمام وقال:
– في الحقيقة، كنت أريد الذهاب إلى “باليفرموت”، وليس “باليمون”.
تبرم سائق التاكسي وقال:
– نعم، أعلم.
هذه أول مرة يسمع شخصًا يتحدث بلهجة “دبلن”، وهي بعيدة عن لهجته، وهي كل ما اكتسبه منها، في قرابة عشرين عامًا.
منحته لافتة “باليفيرموت” بداية، كأن تجد اسم شخص عرفته يومًا ما في عناوين الجرائد. بعد دقائق معدودة، يمران عبر ضاحية “بالمرزتاون”، ويُصدم “فرانك” من اللون البيج المنتشر في كل شيء: المنازل والحوائط والناس ووجوههم.
عند مستشفى “تشيري أورتشارد”، كانت السيارات تكاد تزحف من الازدحام. المستشفى على اليمين جامد وكئيب كالمعتاد، لكنه مستمر في العمل بثبات. وكذلك مدخنة المغسلة التي كانت المشهد الذي يراه عادةً هو ورفيقه الدائم طيلة ثلاثة أشهر قضاها هناك وهو طفل. هو يشعر الآن بوالده، محاولًا الدخول إلى رأسه ومقاومة هذا الشعور ودفعه خارجًا.
سارا بموازاة بوابة المستشفى والحوائط التي تتقوس نحو المدخل. استرجع “فرانك” إحدى الذكريات: تمايل سيارة الإسعاف في تلك الليلة وتلعثم وتوقف سرينتها من حين لآخر، كأنها نسيت كلمات أغنيتها. وهو يفيق من هذيانه لدرجة تجعله يلاحظ سقوط الثلج على الزجاج الأسود لنافذة سيارة الإسعاف، ويتساءل كيف يتصبب منه العرق بغزارة،في حينأن الجو في الخارج بارد لدرجة سقوط الثلج. سأل أين هم، وعندما أجابه رجل الإسعاف بأنهم في “تشيري أورتشارد”، فكر أنه أجمل اسم سمعه على الإطلاق.
استنكر سائق التاكسي حركة المرور، ثم شغَّل الراديو. صدر منه صوت يتحدث عن المال، وصوت آخر يبدو متوترًا أو غاضبًا على التليفون. مد سائق التاكسي يده وأغلق الراديو وأعاد تشغيل الصمت مرة أخرى.
تذكَّر “فرانك” الآن صوت أبواب سيارة الإسعاف وهي تصطدم بعنف وإحساس أنك تُرفع كأنك محمول بمغرفة في الظلام والهواء البارد، واعتقاده أن شجرة كرز مزهرة ستسقط فوقه، عندما نظر إلى أعلى في تشوش الرؤية الذي يسببه الثلج. بالتأكيد كان يخرِّف بشأن كل ذلك في أثناء مرضه على أية حال، لأنه بعد أن تحسنت حالته، أحضر له أبوه مسرحية لـ”تشيكوف”. كان فتى صغيرًا في الرابعة عشرة من عمره يظن نفسه ذكيًّا مثقفًا، لأن ذلك بالأساس كان ما يخبره به الجميع دائمًا، لكنه لم يستطع قراءة ما بعد الصفحات القليلة الأولى، مما بدت له قصة قديمة مملة عن أشخاص حمقى شكائين مزعجين وأسمائهم غريبة. ظل يسترجع إهداء والده دائمًا: “إلى فرانسيس، الذي يحمل اسمي نفسه، والذي، على عكس المؤلف، نجا بحياته. مع حبي، فرانك الكبير”. ظل يحاول فهم ماذا كان يعني ذلك بحق الجحيم أو لماذا كان والده يكتب إليه بهذه الطريقة كما لو كان بالغًا أو كما لو كانا غريبين؟