
انهار على الرصيف مصدوما، منكفئا على نفسه.. كانت هي..
أغمض عينيه خوفاً من قساوة المشهد..
كانت عيناها المليئتان بالحياء قد انطفأتا تماماً.. وهي تعاقر الشراب رفقةَ شاب غريب..
بصق في كل اتجاه، شتمها بحرقة، وفي محاولة يائسة للنسيان؛ اتجه نحو الحانة، واشترى زجاجة ومضى، وقلبه يصرخ.. فلأشرب نخبك يا ناجية.. نخب شَعرك الذي لم تمكنيني من لمسه.. نخب النهايات البائسة يا كذبة العمر..
عاد إلى غرفته الضيقة، انكمش مرتعدا، تناول الزجاجة، بدأ يعب منها. صدر منه نحيب موجع كنحيب طفل ضاع في الصحراء.. ضرب الزجاجة بالأرض.. تناثر الزجاج في كل مكان، انحنى نحو الزجاج المتناثر، وبحركات هستيرية، جعل يجرّح يديه وصدره.. تحرك نحو فراشه وهو ينشُج متوجعا، وقد اختلطت دماؤه بدموعه.. نهضن من جديد، ومدّ يده إلى أسطوانة، لأغنية قديمة لمارسيل خليفة.. بدأ بالنواح حين وصل إلى مقطع ” لو مهرك كان مدينة، وبالشام كان العرس، لأركب على الفرس وجبلك مفتاح القدس”..
وبحسرة قال: لماذا يا ناجية؟ كان يرتعش وهو يتساءل.. مسح دموعه، وأمسك قلماً كتب لأول مرة كلمات اختلط بها الحبر بالدم المتساقط من يديه.. “في منفى ما بمعطف يشبه معطف بطل قصتها غادرت الوطن”..
أغلق الاسطوانة وقال بصوت هستيري: لا مارسيل بعد اليوم، لا ناجية
وضع أغنية حلم لآمال المثلوثي و استسلم للذكرى..
المترفون فقط من يبدؤون صباحهم بمارسيل والياسمين، أما هو فالفقر رفيقه، يبدأ يومه بالخبز والزيت.. هي ثروته التي يخفيها بين طيات ثيابه، هذه القارورة هدية صاحب حقل الزيتون لأمه المثابرة التي منحتها له…
تأخذه خطواته صباحاً نحو المترو. كيفما كان، ممتلئاً بالركاب أو فارغاً.. كتاب في يده لا يفارقه.. يجلس إلى الدرجين المقابلين للجهة المغلقة من الباب، فهو دائماً ما يترك مقعده لمن هو أكبر منه سنا..
يغرق لحظة في الكتاب ثم يسرح بخياله في تلك الفتاة الغريبة التي كانت عيناها معبداً صوفيا يتردد فيه التسبيح.. كانت صورة تلك العينين تتسلل إلى قلبه الفتي وتملي عليه سطوراً من الفرح، فيخترق الجمال كل شيء يراه المارة والأشجار..
يوقظه صوت السائق فيطوي أحلامه و يذهب إلى حظيرة البناء، وقد تسلح بالسجائر الرخيصة.. يتلقف (السطل) بهمة ويعود مساءً، وقد تسلخت يداه من أثر العمل المضني، إلى حجرة مكتظة بالطلبة، حاملاً لُفافة فيها بقية الوجبة الجامعية، وينام منهكاً في انتظار الغد..
إنه يوم الاثنين، يومه الموعود. يدخل الكلية بروح وليٍّ مؤمن بالحقيقة، التي تزرعها فيه الكتب والدروس. كان يزدري الطلبة الذين يأخذون حمامات شمس مهملين دروسهم. وحدها ناجية كانت لوحة خارجة عن المألوف، تسند ظهرها إلى النخيل وتنهمك في القراءة فيتورد خدها الأيسر. كان يراقبها بحب ووله شديد وحذر، لكنها كانت تنتبه إلى شال ذلك الفتى الذي يجمعها به سر تخفيه عن الجميع، فقد كان غريباً أنها كلما استحضرته وجدته بجانبها.. إنه قيس ذلك الفتى الذي يسكن روحها، حين يخطب في الجموع فتهتز أفئدة الطلبة…
لم يصدق رسالتها الشفوية التي وصلته يوماً منها، محذرةً أنها ستضطر إلى صفعه إن لم يكف عن القول في خطاباته إنها ثلاثة آلاف سنة من الفشل.. ضحك طويلاً على جرأتها، وطلب من صديقه أن يكرر الرسالة على مسمعه. ومنذ ذلك اليوم أخذ عهداً على نفسه أن يتوقف ليؤدي لها تحية عسكرية، فكانت تشيح بوجهها مدعيةً الغضب، مبتسمةً في سرها.. لم يكن يعرف أن في قلب تلك الفتاة التي يشعر الجميع بحضورها حين تمر، حباً غريباً يكبر له..
كانت في كل مرة يمر فيها أمامها، تتأمل بحزن شاله وحقيبته المرسوم عليها وجهُ تشي غيفارا، تمنت لو تحادثه ولو حديثاً خاطفاً، غير أن القدر أخفى لها مفاجأة سارة، فقد اكتشفت أن زميلتها في الغرفة هي أخته، دلها على ذلك صورته في جهاز الكمبيوتر. ظنته حبيبها إلا أن أختها وقبل أن تطرح عليها السؤال، أجابتها بطرافة وبساطة: إنه أخي. ليلتها استعارت منها الكمبيوتر وسهرت تتأمل وجهه منخرطة في بكاء عميق سببه الحب.. ولم تسع الفرحة قلبها حين أبدت الأخت الكريمة تبرمها من ملابس أخيها الكسول التي عليها غسلَها …طلبت ناجية بمكر تخليصها من هذه المهمة الثقيلة، مدعية أنها معتادة على هذه الأعمال البسيطة. أغلقت عليها باب الغرفة وعانقت ملابسه بحب شديد، ورقصت وهي تعانقها رقصة فالس ساحرة..
في تلك الأيام التي سبقت الثورة، أعلن الشعب عن تطليق زمنٍ من الخوف والهزيمة، زمنٍ يكلله البنفسجي البغيض بكل ما يرمز إليه من نرجسية وأنانية، زمنٍ عجيب أقوى من قدرة الجميع على التحمل. يومها انهمك في العمل، لكن شعوره أنه في المكان الخطأ ملأ قلبه بالوجع الصعب، لكنه شعر أنه مشدود إلى أرض صلبة تمحو كل ما هو رخوٌ وباهت. تذكر كتاب غادة السمان وقرر أن الغد هو حظه من السعادة، حين تلتقي يده بآثار يديها..
التاريخ 12جانفي
الموت في كل مكان ..وعلى وقع ضربات الشمس، بكى قيس طويلاً من قهر الفقر وقهر الرجال، فمن غيره كان الأجدر به بأن يكون في القصرين في تلك اللحظة.. تمنى أن تمتد ضربات الشمس إلى كبده، شعر أن دماءه تتسمم، وأنه يهوي إلى الحضيض، فهو لم يمت بشرف مثلهم. لعن حياده.. ترك كل شيء وراءه، وهرول نحو الجامعة، أراد أن يجد أي علامة على الرفض، ولكن الوضع على حاله.. ردد بصوت خفيض: يا خالق الأكوان، كيف يموت الياسمين ولا تنشق الأرض غضباً؟! جلس إلى النخيل، كان يبدو هرماً ومتهاوياً.. لكن، مهلا! انتفض قلبه، رأى الرفاق ينتحبون كأنهم أطفال صغار. لم يفهم كيف يتصرف وهو الزعيم المفوه بأي خطاب يمكن أن يمحو هذه الدموع النقية.. في تلك اللحظة أطلت ناجية مثل الشمس، صرخت فيهم: هلموا إلى قاعة الأساتذة.. كانت صرخة تونسية حرة، كان يعرف أن تونس لا تنقذها إلا نساؤها. دخلوا القاعة، لم تقل سوى عبارة كافية ليخرج الجميع. إنه زمن الدم، فماذا تنتظرون؟
كانت شرارات الثورة تتقد وتعلن موت عهد من الصمت والغرابة …خرجوا أفواجاً ليضعوا بصمة في تاريخ لا يزول …
في الصف الأول مع ناجية يذكر أنه جلس مقابل الشرطة التي ملأت المكان، قاطعة عليهم الطريق. كان يشعر بشكل ما أنه يومه الأخير. أخذته الحمية، نظر إلى ناجية نظرة ظنها الأخيرة وتقدم الجموع حاملين حقدهم…
لا يعرف كيف نجا من طلق ناري! يعرف فقط أنه أفاق على صوتها. لم تستطع أن تتمالك نفسها، فقد أخذها قلبها إلى المستشفى وعلى سرير العلاج، تلاقت نظراتهما أخيراً، فانسكبت عبرات الحب والنصر.
أصبحت ناجية بعد ذلك رفيقة الدرب والروح، كانت امرأة سريعة البديهة، وكانا يتسليان بالسذج والأدعياء.. كان يكفي أن ينطق أحدهما كلمات غامضة من شعر أو حكمة حتى يبتسم الآخر ..تقاسم معها الحب والرعب والانكسارات، حلما أنهما سيغيران وجه الوطن معاً…
لكن ماذا حدث بعد ذلك؟ اكتشف أن ثورات أشعلها هؤلاء لن تنجح من لا يحترمون الوقت، من يرمون القمامة على الرصيف، من يدعون القراءة. كان زمناً توجب على الصادق فيه أن ينحت في الصخر بصمت تام، ثم ليهزم بعد جهد…
حتى ماجدة التي كانت كل أثاث روحه اختفت بصمت.
استيقظ صباحاً والفوضى تلف المكان.. قيس ذلك الفتى الذي ثمل لفرط الخسارات، والذي نهش الجوع قلبه وأحلامه، فك أخيراً لغز الرفاق الذين يضحكه صعودهم فوق طاولات المطعم الجامعي مطالبين بوجبة لائقة.. أولاد الحفيانة.. ذلك اللغز الذي فهمه عندما أدركه الجوع بأنياب أسد لا يرحم ..هو الذي كان يحلم بشيء أعمق في عز جوعه، على خلافهم، فقد عرف أن العلم هو الذي يغير وجه الوطن…
تذكر وهو يغسل آثار الدماء حلماً غريباً.. رسالة، نعم إنها رسالة، ناجية التي نسي قراءتها منذ سنوات..
تحامل على نفسه و قصد المكتبة لقراءتها، لعلها تصفح لتلك الفتاة الطاهرة التي في قلبه
شعر و هو يقرؤها بالوفاء والقوة، عانق الكتاب و قبّل عباراتها بدموع سخية في منفى اختاره، وبمعطف يشبه معطف بطل غادر الوطن..
اليوم و هو يعد لمعرضه في روسيا، خط رسالة كالتي كتبتها له، وألقاها في البريد، لعل امرأة تشبهه تقرأها و تعرف أنه بانتظارها..