بعد دواوينه: (احتفاليات المومياء الموحشة) و(فاصلة إيقاعات النمل) و(رباعية الفرح) و(أنت واحدها) و(يتحدث الطمي) و(النهر يلبس الأقنعة) و(شهادة البكاء في زمن الضحك) و(كتاب الأرض والدم) و(رسوم على قشرة الليل) و(الجوع والقمر) و(ملامح من الوجه الإمبدوقليسي) و(من مجمرة البدايات) و(من دفتر الصمت) و(الأعمال الكاملة – مجلدان) (2000)؛ تصدر للشاعر الراحل محمد عفيفي مطر (1935- 2010) مجموعة قصائد بعنوان (ملكوت عبدالله) عن دار الصدى لتحمل الرقم 140 في سلسلة إصدارات دبي الثقافية. ولعل هذا العنوان هو الذي يشير إلى شيء جديد في شعره الذي عُرف لدى النقاد بصفته شاعرا مثيرا للجدل لتوافر الغموض الرمزي في قصائده، على مستوى اللغة، والرؤية الشعرية.
على أن من يقرأ هذه القصائد لا يفوته أن يلاحظ ميل الشاعر فيها إلى الطابع الرعوي ببعده الجلي عما عُرف به شعره السابق من غموض، ففيها يتجلى لون من الوضوح الرمزي الذي يكاد يكون مباشرًا، وإن لم تخل لغته فيها من التكثيف المجازي، والاستعاري. وقد ساعد على ذلك وضوح رؤياه التي تستند على مستوى التشكيل، لسلسلة من المشاهد ذات التسلسل السردي، الذي يلتقط جوانب من سيرة المتكلم (عبدالله) الذي قد يكون- في أغلب الظن – قناع الشاعر نفسه. فهو ريفيٌ، مغرم تارة بالصيد، وتارة بحراسة الحقول، وتارة بالتجوال الذي يستكشف به الطبيعة، بما فيها من عوالم الطير، والحيوان، والمدائن، التي تعج بها الأساطير. فالقصائد التي كتبت جميعا بين عامي 2006 و2009 تعبر بدقة عن معاناة (عبدالله) مع الشعر، والحياة، والعالم. يقول في قصيدة “مفتَتَحُ مواسم الصيد” ما ينم على أن رحلته الطويلة جدا مع الشعر لم تسفر، في نهاية الأمر، إلا عن حصاد مفجع، هو مزيد من الخيبات المرة:
عبدالله لا يسمع ما أحكي
ويصغي لدماه
قلت: ياعمري الذي أوله أنتَ
أمنذورٌ لصيدٍ لا يُرى
قال: أراه
شاردًا منذهلا بين سماواتٍ وأرضٍ
فاحتطبْ من حَطَب الأيام في مجمرة الحرفِ
واسمعْ
وانتظرني
فهو يقاسي من مراوغة الحرف، أولا، ومن معاندة الطريدة التي لا تذعن له بيسر، ثانيًا؛ فيكتفي من حصاد العمر بالجمر، والانتظار، الذي لا ينتهي إلا بالرحيل. وهذا شيءٌ نجده يتكرر في قصيدة أخرى، عنوانها «أنسابٌ مختارة؛ فمع أنه يسلم بأن الشعر جوهره الإبداع، والخلق، وأنه أنغامٌ يُعاد ترتيلها منذ بدْء الخليقة، إلا أن(عبدالله) -ها هنا- لم يظفر من هذا الإبداع، ومن هذا الخلق، إلا بما يشبه الصدى:
فالخلق منبعثٌوالشعر جوهرهُ،
هسْهَسْتُ فانطلقت كالسهم نافرةً
نحو الفضا والصدى،
ريح تُبعْثرهُ
وأيًا ما يكن الأمرُ، فإن علاقة الشاعر بشعره لا تخلو من عذاباتٍ تصورها بدقةٍ قصيدة (أبو الطيور) فمع ما يعانيه هذا الطائر من تقلبات الريح، وزوْبعَةُ الدهر، والتحول الدائم من شكل إلى معنى، ومن معنى إلى شكل، ومن نقيضٍ إلى نقيض، إلا أن شطحاته المستمرة من الهامش إلى المتن، ومن المتن إلى الهامش، لا تعدو أن تكون نوعاً من الأسْر الذي لا يَنْتهي بتحَرُّر الأسير:
وأبو الطيور
شَطَّاحٌ من الهامش للطُرَّة
من مُهْرة الياءْ
لاشتباك الهاء في عقدتها
حتى فم الهمزة في فتح الكلام
قال عبدالله:
فليسرح أبو الطيور ما طابت له الريحُ
فقد أوقعني في الأسْر، هذا الخيطُ
من حبرٍ وزنْكٍ وحرير
ويتوَسَّل الشاعرُ في تصوير علاقته بالشعر، وبالإبداع، بوسائط متعددة، ومختلفة، أكثرها يقوم على تصوراتٍ رعويّة، تتخللها مشاهد طرَدٍ، وبرارٍ موحشة، ووحوش مفترسة، وطيور تنقضُّ على فرائسها انقضاض النيازكِ، والشُهُب، مما يجعل ملكوت عبدالله – ها هنا – صورة مرعبة لعلاقة الشاعر بالعالم، ولعلاقته بالتجربة التي لا بُدَّ منها، لتصفو له عملية الخلْق. ففي قصيدة طَرَدية بعنوان (آخر الصيد وأوَّله ) التي يمهِّد لها ببيْتيْن من شعر أبي العلاء المعري، يتضح لنا أن الصيد فيها ما هو إلا رمز غير مألوف لما ينتظره الشاعر في عنائه المستمر، كأنْ تجود عليه البديهة، وتسخو القريحة، بصيدٍ ثمين.. ولكن التجارب المستمرة لم تفئْ عليه بهذا الفئ، فكأن حاله كقول أبي العلاء:
كان عبدالله مشبوحًا على باب الحروف
كلما استنطق حرفا
ساقه للغامض المُلغز في حرف سواه
يتغشَّاه عماءُ الوعدِ والموْعدِ
لا النار استبانتْ في رماد الألف عام
لا ولا العنقاءُ تدْنو فتُصادْ.
ومن هذه الصور المتكررة، يتضح أنَّ (مطر) يرمز بعبدالله ذي الملكوت إلى الشاعر، وإلى ملكوته، الذي هو ممارسة الخلق الشعري، والتوق لمزيد من العطاء المتألق، وإلى عذاباته الموصولة سواءٌ في مراوغة النص للذات، أو في مراوغتهِ هو للنص. فعبد الله – إذاً- هو الشاعر مطر، أو الشاعر بصفة مُطلقةٍ، من غير تحديد. ولأنّ هذه القصائد كتبت بين عامي 2006 و2009 والشاعر توفي في العام 2010 نستطيع أن نستخلصَ منها ما يشير إلى طبيعة اللحظات الأخيرة في حياته، ولعله استعاد فيها مراحل مساره الشعري، وما لقيه فيه من معاناةٍ مع السلطة تارة، ومع خصومه من الشعراء، والنقاد، تارةً، فاكتشف أنه لا يكفي الشاعر أن يكون موهوبًا، مبدعًا، فحسب، وإنما عليه، أيضا، أن يفرضَ نفسه باقتدار على الآخرين، ولو أعوزه ذلك للقوة، وللتسلُّح بهراوة هيركوليس.
شعْرٌ كأنه سردٌ، وسردٌ كأنه شعر
أما الشيءُ الذي لا يتوقعه الدارس في هذه الرعويات، فهو تحوُّل الشاعر اللافت من القصيدة ذات النفس الغنائي، إلى تلك التي يغلب عليها النفس السردي، وعلى الرغم من أن بعض الدارسين يرون أن السرد يُضعف القصيدة، فإن لمحمد عفيفي مطر جوابًا مختلفا عن هذا السؤال، ففي قصيدة له بعنوان « أمومة مغدورة « نجد التوازن دقيقًا بين شعرية السرد، وسردية الشعر، فبعد المقدمة (الاستهلال) التي تعبق برائحة الخبز، ورماد الفرن، وعرق الأمومة، والقهقهات، تبدأ حكاية المتكلم (عبدالله) مع نواطير القثاء، والبطيخ، مؤكدًا وقوع الحدَث، واطراده باستعمال الفعل الدال على التوالي السردي:
كنا بمنتصف الصيفِ
والليلُ نثٌّ من الطلِّ،
معتكرٌ بالهلال الوليد
نرى لمعًا خابياتٍ تكاد تحدّرُ فوق مصاطب بطيخنا
وعساليجه
لبثة لبثة
وأحاطتْ بنا ظلمة الليل
كنا بنوْبَتنا في الحراسة
ومن يتابعْ قراءة القصيدة، يكادُ لا يفرق بينها وبين أي حكاية قصيرة من نوادر الحراس، وأخبار النواطير. ففي تلك الليلة اقترح خبيرٌ من المجربين أن يشعلوا نارًا كيْ يأمنوا خطر الوحوش؛ من ذئاب، وغيرها، يشق عواؤها سكون الليل، وتقتحم الحواكير، وتعيثُ فسادًا، فتهشّم البطيخ تاركة ماءه مختلطا بالتراب، وبالقشور الخضر، وبالعروق، ولا يجدون مندوحة عن نصب (شرَك) فخّ، لعلهم يصطادون بعض تلك الوحوش، بدلا من أن تواصل الاعتداء على (المقاثي). يقول أحد النواطير في حوار كأيّ حوار يتخلل حكاية سردية :
فخّ صُلب بشدقيه ، أضراسهُ
وقواطعه المرهفات أشد وأنكى بها
قطعة من شواء ستغوي معاطسها
وتشد من الجُحْر لابدَها
ثم نسمع طقطقة الصُلبِ حوْل الرقاب
على أنَّ الحكاية تتواصل مجرياتها، واقعة تلو الأخرى، فما النتيجة المترتبة على ذلك التدبير؟ يرسم الشاعر أجواءً أخرى تغطي فيها السماءَ الغيومُ، ويختفي الهلال، فتزداد وحشة الظلام الساكن، إلا من عواء الذئاب الذي يتجاوب بعضه مع بعضه الآخر من بعيد.. والمتكلم (عبدالله) يلوذ برفاقه خائفا، مذعورًا، وهم ينتظرون النتيجة، مرهفي السمع، والبصر، حتى إذا ما دنا الهزيع الأخير من الليل، إذا بصوت الفخ يُطبق على عنق الطريدة إطباقا يرافقه عواءٌ مكتوم:
وقبل الهزيع الأخير من الليل،
دوَّت بأجسادنا طلقة أرعدت بأسنة فولاذها
وانطباقة أضراسها الصُلب
صيْدٌ هوى بعواءٍ كظيم
وتحتَ جنح الليل يكتشف المتكلم، ورفاقهُ، ذلك الصيد الثمين، الذي غنموه، فقد كانت ذئبةً وراءها خمسة جراء، تدورُ حولها لاهية، لا تعرف ما الذي جرى للذئبة الأم. ولذا راحت تمرح باحثة عن مكامن الأثداء كي ترضَعَ في هدوء، وسكينةٍ، تشبه سكينة النُعاس. ذلك هو المشهد المأساوي الذي تنتهي به القصيدة الحكاية، وهي نهاية تبْعثُ في نفْس المتكلم (عبدالله) ردودَ فعلٍ عكسيّة. فقد تذكرَ في الأثناء ما الذي يعنيه أن يُفجعَ الصغارُ بأمّهم:
جريتُ وحيدًا
إلى بيت أمي
تشققني شهقتي
وتهدُّ كياني الدموع
فمثالُ هذه القصيدة لا يختلف عن أي حكاية قصيرة، بيد أنها لم تفقد –مع ذلك- ما تنماز به لغة الشعر عن لغة النثر، ولا عن صوره، ولا عن رؤاه. ففي رغيفٍ على الجمر، وبزفير القرابة، وللجوع ملهبة، وغواية المعاطس، وطقطقة الصُلب، وسر الضراوة، والعنفوان. و”الخوف يطلق أشباحه من وجيبِ دمي « و» صدى سنَّنتْه الهواجس” إلخ.. نماذج من المجازات، والانزياحات الأسلوبية التي تشحن القصيدة بطاقة تعبيرية قويّة تفترقُ بها عن لغة النثر السردي. وهذا شيءٌ نجده يتكرَّر في رعوية الغريق، وفي (رعوية الدخول إلى إرم) حيث الذرْوةُ تتبدَّى ببلوغ التخييل الشعري حدًا يكتشف يه المتكلم (عبدالله) فجأة أنه في إرم، وحيدًا، إلا منْ صروح، وأعمدةٍ من رخام، ومَرْمَر، ووشائج غامضة تصله بأزمنة الراحلين الذين نقشوا ما نقشوه على جدران المعابد، وأعمدة الأروقة، وسقوف الهياكل:
ناديتُ واستصْرَخْت
هل أحدٌ هنا
فارتدتْ الأصداءُ أسرابًا من الرعب المجنَّحِ
قلتُ: أرجعُ قبل أنْ تتخطَّفَ الذؤبانُ أغنامي
استدرتُ، فلم أجد بابًا لأخرجَ،
فانكفأتُ على خُطاي
وهذه الخاتمة، لحكاية في رؤيا، أو لرؤيا في حكاية، تؤكد أنّ ما ورد في تسلسل الحدث ليس سردًا خالصًا، وإن كان في ظاهره لا يختلف عن أيِّ مُتخيَّل حكائي. وإنما هو – علاوةً على ذلك- شعرٌ في قالَبٍ سرديّ، وسردٌ في إهابٍ شعري. والرؤيا الأخيرة، التي اختتم بها الشاعر القصيدة، تؤكد هذا، فلو كان السرد فيها نثرًا مطردًا لوجب أن تكون النهاية مما يوحي به، ويومئ إليه، تسلسل المحكيّ السرديّ، ولكنها – ها هنا- جاءتْ في صورة من صور التناقض الظاهريّ (المفارقة) الأمرُ الذي يُضفي على القصيدة دلالاتٍ قد لا تخطر ببال السارد، أو المروي عليه، فهي تشيرُ إلى عبثية الأسفار التي ظل الشاعر مشغولا بها، لاهثا وراء الكشف العظيم الذي يمكنه من كتابة القصيدة الخالدة، التي يتمنّى أنْ يكتبها، ويتوق لإنجازها. القصيدة التي هي أكثر ألقًا، وسحرًا، من جُلّ ما كتب، وأرسخُ خلودًا مما يتوقَّع، قصيدة تجعل من شعره أسطورة بفرادة إرم ذات العماد، التي لم يُخلق مثلها في البلاد.