نحن من منفى إلى منفى ومن باب لباب
نذوي كما تذوي الزنابق في التراب
فقراء، يا وطني نموت وقطارنا أبدا يفوت…
بعض الأدباء لا تقل سيرتهم أهمية أو جمالا عن أدبهم، وهكذا كان الشاعر العراقي عبد الوهاب البياتي (1926- 1999) والذي وقف من خلال شعره الإنساني ضد الاستغلال والتمييز العرقي والطائفي، حيث كان محبا للبسطاء، مخلصا للفقراء، ومؤمنا بأن الشاعر لا وطن له حيث إن وطنه العالم كله، حيث يقول:
حبي أكبر مني،
من هذا العالم
فالعشاق الفقراء
نصبوني ملكا للرؤيا
وإماما للغربة والمنفى
محطات شخصية
ولد البياتي في بيئة شعبية صغيرة وفقيرة، عام 1926، وتعرف إلى العالم من خلال الحي الذي عاش فيه بالقرب من مسجد وضريح الشيخ عبد القادر الجيلاني في بغداد، حيث كان المكان يعج بالفقراء والمجذوبين والباعة والعمال والمهاجرين من الريف والبرجوازيين الصغار، فـ “كانت المعرفة هي مصدر ألمي الكبير الأول”.
عام 1944 التحق بكلية دار المعلمين ببغداد وتخرج منها عام 1950 حاملا درجة الليسانس في اللغة العربية وآدابها. اشتغل أستاذا في جامعة موسكو من عام 1959- 1964.
عمل أيضا في فترة لاحقة من حياته في السلك الدبلوماسي، كان آخرها كملحق ثقافي في السفارة بإسبانيا.
كانت إقامته في إسبانيا 1970- 1980 قد ميزت رحلته الشعرية بطابعها الذي ظهر في عدد من دواوينه الشعرية، وهذه الفترة كان يحلو للبعض أن يطلق عليها مجتمعة نتاج المرحلة الإسبانية، والتي حيا في بعضها أشهر شعراء اللغة الإسبانية مثل: أراغون وإيلوار. وكأنه صار أحد الأدباء الإسبان، حتى تمت ترجمة أعماله العربية إلى الإسبانية. وربطته علاقة صداقة مع عدد كبير من مثقفي هذا البلد خلال إقامته في مدريد.
المنافي البعيدة
عاش متنقلا بين أقطار الدنيا وعواصمها من بغداد إلى القاهرة مرورا بمدريد وموسكو إلى بيروت ومحطته الأخيرة دمشق، أو ما يسميه “المنفى الكامل”.
إن البياتي الذي غلب عليه طابع الترحال والهجرة القسرية، ينطبق عليه قول التوحيدي إنه أغرب الغرباء، فقد كان يتحدث دائما بوجع المنفى والمنافي، وجرح الغاضب وتفاؤل الثائر.
لم يستقر البياتي يوما، كانت حقائب سفره دائما على كتفه. في كل مكان يحل فيه يجد عشرات المريدين والمحبين والدراويش ومشاهير الشعراء بمختلف بلدان العالم. وما ميزه هو تقبله لكل الاتجاهات: الصوفي والعاشق والمحارب والثائر والمفكر.
بين الحداثة والتصوف
يرتبط اسم البياتي بحركة الشعر الحديثة، أو ما يسمى شعر التفعيلة، كما يرتبط باسم المؤسسين الحقيقيين له: بدر شاكر السياب ونازك الملائكة، ويعد البياتي شاعرا مؤسسا في حركة الشعر المعاصر التي تسمى “الحداثة الشعرية” اليوم.
اهتم بالاطلاع على كتب المتصوفة مثل ابن عربي والشبلي والحلاج والجيلاني، ويحتل البياتي المرتبة الأولى بين الشعراء في استمداد القناع من التراث الصوفي.
يقول بعض النقاد -ومنهم الشاعر العراقي حسين مردان- إن البياتي يقلد الشاعر التركي ناظم حكمت ويقتفي خطاه، وكان يمتاز شعره بالنزوع نحو عالمية معاصرة متأنية من حياته الموزعة في عواصم متعددة..
الصدمة الأولى
بدأت المرحلة الرومانسية للبياتي عام 1950، عندما بدأ بنشر قصائد ديوان “أباريق مهشمة” حيث لاقت صدى ترحيبيا واسعا لدى نقاد الموجة الحداثية آنذاك. واعتبره بعضهم منعطفا شعريا، وولادة جديدة، وربما لأسباب سياسية أكثر منها فنية، وقد كتبت “أباريق مهشمة” في جو أقرب إلى السجن أو المنفى، حيث كان معلما في مدرسة بمدينة الرمادي على أطراف الصحراء والتي كان ينفى إليها السياسيون.
ويصف البياتي تلك بقوله:
هناك عانيت نفس محنة هؤلاء وعشت مناخهم، وقد أطلق عليها الكاتب العراقي غائب طعمة فرمان “المنفى الكبير أو السجن الكبير”
سأكون!
لا جدوى، سأبقى دائما من لا مكان
لا وجه لا تاريخ لي، من لا مكان
الضوء يصدمني وضوضاء المدينة من بعيد
نفس الحياة، يعيد رصف طريقها سأم جديد
أقوى من الموت العنيد
وأسير لا ألوي على شيء، وآلاف السنين
لا شيء ينتظر المسافر غير حاضره الحزين.
كان البياتي من رواد مكتبة مسجد الخلاني، والتي كانت تقع في شارع الكيلاني الذي يتصل بشارع الرشيد، حيث كانت تضم مختلف الكتب، مثل مؤلفات طه حسين وأشعار أحمد شوقي ومعروف الرصافي وعشرات الأدباء العراقيين والعرب، وكان الكاتب القصصي العراقي الراحل غائب طعمة فرمان قد أهداها لشاعرنا.
بدأ البياتي ما بين عام 1950- 1953 ينشر قصائده في مجلة الثقافة القاهرية، ومجلة الآداب اللبنانية، ثم توالت أبرز أعماله الشعرية بدءا من ديوان “أشعار في المنفى” عام 1954، والذي ترجم إلى الروسية والصينية، وأنهى مسيرته الشعرية بديوان “البحر بعيد اسمعه يتنهد” عام 1998.
وكتب عددا من القصائد مهداة إلى عدد من الشعراء، ومنها: قداس جنائزي إلى نيويورك، القربان، وهي مهداة إلى بابلو نيرودا، قصائد حب على بوابات العالم السبع، الموت في البوسفور، مهداة إلى الشاعر التركي ناظم حكمت.
شهادات
كتب الشاعر اللبناني الراحل أنسي الحاج في مجلة شعر اللبنانية، عدد أبريل/نيسان 1957 مشيدا بشعر البياتي معتبرا إياه من شعراء النخبة، أما الناقد العراقي نهاد التكرلي فقد كتب دراسة مطولة نشرها في مجلة الأديب اللبنانية واصفا البياتي بأنه المبشر بالشعر الحديث.
وقد كتب الشاعر الفرنسي لويس أراغون في مجلة أدبية يرأس تحريرها، قائلا عن الشاعر البياتي “عبد الوهاب أعظم شاعر عراقي عربي معاصر”.
ويصف الكاتب المصري مجاهد عبد المنعم مجاهد -في مقال له في مجلة الثقافة الوطنية التي تصدر من بيروت- حيث ورد فيها “البياتي أحد الأبطال الذين صنعهم التاريخ ولو لم يولد لكان على التاريخ أن ينجب بياتيا” ويتابع: كان على التاريخ أن يوجد شاعرا يصور لنا ليل بغداد الكئيب ويصور بيوتها المنفوخة البطون.
وكان البياتي بداية شبابه يتصف بالعزلة، ويفضل الجلوس وحيدا في المقاهي البغدادية مع طقوسه الخاصة في الشرب وقراءة الصحف والمجلات وتأمل نهر دجلة من نوافذ تلك المقاهي، ولكن حياة المنفى أضفت على البياتي نمطا جديدا من الحياة حيث بدأ يشارك في المؤتمرات الأدبية والأمسيات والندوات الشعرية، مما جعله يخرج من عزلته التي كان يعيشها في بغداد، متجها إلى عواصم الشعر والأدب والتي بدأها من بيروت بسبب موقعها وحرياتها. وختمها في دمشق حيث يرقد مواطنه الجواهري.
على أرصفة المقاهي
كانت هناك علاقة خاصة بين البياتي والشاعر التركي حكمت، حيث كان يزوره في بيته الريفي أو في أحد المقاهي بموسكو، وكان الأخير معجبا بديوان البياتي “أشعار في المنفى”. وكانت هناك اقتباسات البياتي الصريحة من شعر حكمت، الذي شاع في الخمسينيات بالعراق، وأصبحت سمة من سمات البياتي، رافقته إلى نهاية حياته.
كان لليل العاصمة المصرية أثر في نفسية البياتي حيث كان يتجول في المقاهي القاهرية في الصباح ويجلس في مقهى “لاباس، ريش” يلتقي الروائي المصري نجيب محفوظ وآخرين، وفي المساء يعود إلى مقهى “الفيشاوي” في حي الحسين يسهر حتى ساعات الفجر ومن ثم يعود إلى بيته مع ثلة من الأصدقاء مشيا على الأقدام.
الرحيل المر
غادرنا البياتي في الثالث من أغسطس/آب 1999 عن عمر 73 عاما قضى أغلبها في المنافي، كانت دمشق آخرها، غير أنها جاءت حسب وصيته بأن يدفن في مقبرة بن عربي الصوفي الذي عشقه شاعرنا، وقال عند سؤال عن الحال “إنني أعد العدة لكي أنام إلى جوار شيخي.. ليكون ثاني الشعراء العراقيين بعد الجواهري الذين يختارون دمشق في حياتهم وبعد مماتهم مقرا أبديا. وكأنه كان يريد أن يبقى إلى جوار شيوخه من المتصوفة من مرقد الشيخ الكيلاني في العراق إلى مرقد الشيخ محيي الدين بن عربي في دمشق.
لم تتحقق أمنية البياتي أن يموت على شاطئ دجلة، فلفظ أنفاسه الأخيرة على شاطئ بردى، ذلك أنه شاعر المنافي بامتياز.
وفي “كتاب البحر” الذي سبق رحيله بقليل، يستعيد البياتي كثيرا من عذوبة اللغة ليعلن على الملأ “تعاليمه” الملفوحة برياح الحسرات:
سأقول للكلمات كوني وردة
سأقول للشعراء كونوا صادقين
سأقول للسنوات عودي
للحياة تفجري
سأقول كوني وردة لغزالة البحر العشيق
سأقول للأزهار كوني خيمة لحبيبتي
وسأشعل النيران في المدن الغريقة تحت قاع البحر والورق العتيق.