ما البلاغة؟
إنّها استظهار مواطن الجمال في الكلام، وإلقاء الضوء عليها واستكناه أسبابها وأساليبها وما ترمي إليه من دلائل معنوية عميقة، وهي تذوق دقائق الجمال اللغوي والجلال المعنوي، وما يبهر العقول ويمتع النفوس من أجزاء الكلم المحمولة على أثير من الإبداع والابتكار، والتراكيب اللغوية التي تعزف على أوتار الدهشة واللذة النفسية لدى القارئ العميق، الذي لا يكتفي بالمعنى السطحي والمباشر، بل يغوص في بحار اللغة عمدا أو بغير عمد، ليصل إلى جواهر المعاني ويتلمس كنوزها، هذه هي البلاغة التي إن أسدلت أستارها على الجملة معنى ومبنى أخذَت بتلابيب القلوب، فنفذ المعنى من الأذن إلى العقل والقلب بسلاسة وتأثير يفوق السحر.
وقد جاء في تعريف خير الكلام ما نقل عن خالد بن صفوان، من فصحاء العرب المشهورين، وكان من جلساء عمر بن عبد العزيز وهشام بن عبد الملك، وقد نُقل عنه قوله في لسان العرب في مادة (طرف) أنه قال: “خير الكلام ما طَرُفَت معانيه وشَرُفَت مَبانيه والتَذَّهُ آذان سامعيه”.
وقد فُطِر البلغاء العرب من شعراء وخطباء منذ العصر الجاهلي على قول البليغ من الكلام شعرا أو نثرا، وكانت سلائقهم اللغوية السليمة خير معين لهم، فاهتدوا إلى بليغ الكلام بالفطرة فاعتادوه وألفوه، ثم جاء القرآن الكريم فأثر في نفوسهم تأثيرا كبيرا بغض النظر عن قبولهم به أو رفضهم له، لكنّ معرفتهم ببلاغة الكلم، وهم أرباب اللغة والبيان، كانت سببا بإعجابهم ببلاغة القرآن الكريم حدّ الانبهار.
نشأة علم البلاغة وتطوّره
بالسير التاريخي وتعقّب ما قاله علماء البلاغة عن حدِّها وتعريفها يبدو من الصعب الوقوع على شيء قبل عهد بني أمية، إذ وصل إلينا الحوار الذي دار بين معاوية وصحار العبدي، حين سأله معاوية عن سر فصاحتهم فقال “شيءٌ تجيشُ به صدورُنا فتقذفُه على ألسنتنا”، ثم سأله عن حدِّ البلاغة لديهم فقال “الإيجاز… أن نجيب فلا نبطئ، ونقول فلا نخطئ”.
وقد أورد الجاحظ (255هـ) بعض التعريفات التي نُقلت عن العرب بدون التمييز بين البلاغة والفصاحة، ثم ذكر المبرّد (285هـ) تعريفا للبلاغة قائلا “إن حق البلاغة إحاطة القول بالمعنى، واختيار الكلام، وحُسن النظم حتى تكون الكلمة مقاربة أختها، ومعاضدة شكلها، وأن يقرب بها البعيد، ويحذف منها الفضول”.
وتوالت جهود علماء اللغة والبلاغة في تعريف علم البلاغة فقال الرّماني (386هـ) “البلاغة إيصال المعنى إلى القلب في أحسن صورة من اللفظ”، وقال أبو هلال العسكري (395هـ) متكئا على الدلالة اللغوية للفظ “سميت البلاغة بلاغة لأنها تنهي المعنى إلى قلب السامع فيفهمه”.
وقد ذهب ابن خلدون في مقدمته إلى أن السكاكي (626هـ) أول من مخض زبدة علم البلاغة، وأول من وضَّح معالمه وعرفها في كتابه (مفتاح العلوم)، إذ قال “هي بلوغ المتكلم في تأدية المعاني حدا له اختصاص بتوفية خواص التراكيب حقها، وإيراد التشبيه والمجاز والكناية على وجهها، وهو تعريف يضم فيه علم البيان وعلم المعاني، أما علم البديع فيراه محض محسن للكلام، لكنّ هذا غير دقيق، فقد شهد القرنان الرابع والخامس الهجريان حركة بلاغية واسعة فيما يخص البحث في بلاغة القرآن الكريم ودراستها، ثم تبلور عهد النضج البلاغي بمؤلَّفَي عبد القاهر الجرجاني الشهيرين (دلائل الإعجاز) و(أسرار البلاغة)، إذ أثبت فيهما نظرية النظم التي جاء بها، وحدد مباحث كل من علمي البيان والمعاني، وإن لم يوضح ذلك مصطلحيا ووفقا للتقسيم المألوف المأخوذ عن السكاكي فيما بعد.
وظهر بعد ذلك كتاب الكشّاف للزمخشريّ (538هـ) الذي سلّط الضوء فيه على فنون البلاغة في آيات القرآن الكريم.
لذلك يمكننا القول إن أول من صاغ هذا العلم في مباحث وضمّ بعضها إلى بعض، وجمع أشتاتها هو الإمام عبد القاهر الجرجاني (471هـ) في كتابيه “أسرار البلاغة”، الذي بحث فيه عن الوجوه التي تكسب القول شرفا وتكسوه جلالا، من جهة اشتماله على استعارة مستحسنة، أو كناية لطيفة، أو تمثيل بليغ، أو تشبيه طريف، فهو ينظم مباحث علم البيان بالمعنى المعروف اليوم، والكتاب الثاني “دلائل الإعجاز” الذي يجمع بين دفتيه مباحث علم المعاني.
لكن الجرجاني لم يشر إلى هذه التسمية لأنه لم يكن قد استقر بعد على جعلهما علمين متمايزين، أحدهما يُسمَّى علم البيان والآخر علم المعاني، ولعله كان يعتقد أنهما علم واحد، فغايته الأسمى كانت استثارة الأسرار التي ترفع قدر الكلام وتوصله إلى ذروة الجبل من البلاغة، وهو القائل في صدر كتابه (دلائل الإعجاز) “إنك لا ترى علما هو أرسخ أصلا، وأبسق فرعا، وأحلى جنى، وأعذب وردا، وأكرم نتاجا، وأنور سراجا من علم البيان الذي لولاه لم ترَ لسانا يحوك الوشي، ويصوغ الحلي، ويلفظ الدر، وينفث السحر، ويقري الشهد، ويريك بدائع الزهر، ويجنيك الحلو اليانع من الثمر… إلا أنك لن ترى -على ذلك- نوعا من العلم قد لقي من الضيم ما لقيه، ومُنِي من الحيف بما مُنِي به، ودخل على الناس من الغلط في معناه ما دخل عليه فيه، فقد سبقت إلى نفوسهم اعتقادات فاسدة، وظنون رديئة، وركبهم فيه جهل عظيم، وخطأ فاحش”.
أما الاهتمام بالدراسة البلاغية والتقعيد التفريقي بين العلوم المتعلقة بها فقد بدأ مع كتاب السكاكي في القرن السابع الهجري، وسبب تأليفه كان الرغبة في حفظ التراث من جهة، والميل إلى التعلم والتعليم بأسلوب مبسط ومختصر من جهة ثانية.
ويقول محمد رشيد رضا في مقدمة كتاب (أسرار البلاغة) لعبد القاهر الجرجاني “كان السكاكي وسطا بين عبد القاهر الذي جمع في البلاغة بين العلم والعمل وأضرابه من البلغاء العاملين، وبين المتكلفين من المتأخرين الذين سلكوا بالبيان مسلك العلوم النظرية، وفسروا اصطلاحاته كما يفسرون المفردات اللغوية، ثم تنافسوا في الاختصار والإيجاز، حتى صارت كتب البيان أشبه بالمعميات والألغاز، فضاعت حدود بتلك الحدود”.
بدايات البلاغة العربية قبل التقعيد لها
بدأت أحاديث البلاغة العربية منذ زمن بعيد، وكانت متفرقة في كتب اللغة والأدب والنقد، إذ نجد إرهاصات بلاغية في كتاب سيبويه (180هـ) مثلا، وفي معاني القرآن للفرّاء (207هـ)، ومجاز القرآن لأبي عبيدة (211هـ)، وفحولة الشعراء للأصمعي (216هـ)، وفي كتب الجاحظ (255هـ) كالبيان والتبيين والحيوان، وفي كتاب الشعر والشعراء وأدب الكاتب لابن قتيبة الدّينوري (276هـ)، وفي كتاب الكامل للمبرّد (285هـ) وكتابه الذي سماه رسالة البلاغة.
وقد بدأ التأليف في علم البلاغة بوضوح مع ابن المعتز (296هـ) في أواخر القرن الثالث في كتابه (البديع)، الذي جمع فيه فنون البلاغة العربية وحلَّل بعضها، ثم جاء من بعده كتاب (عيار الشعر) لابن طباطبا (322هـ)، وكتاب (نقد الشعر) لقدامة بن جعفر (337هـ)، أضف إلى ذلك ما وجدناه من إرهاصات بلاغية واضحة المعالم في كتاب الآمدي (371هـ) (الموازنة بين الطائيين) حين قارن بين أشعار أبي تمام وأشعار تلميذه البحتري وقيّمها، وكذلك ما نجده في كتاب (الوساطة بين المتنبي وخصومه) للقاضي الجرجاني (392هـ)، ناهيك عن كتاب الصناعتين للعسكري (395هـ)، وكتاب (سر الفصاحة) للخفاجي (466هـ)، وكتاب (العمدة) لابن رشيق القيرواني (ت456هـ).
ولكَ أن تستمع إلى أبي هلال العسكري وهو يقول في مقدمة كتابه «الصناعتين» “إن أحق العلوم بالتعلم، وأولاها بالتحفظ -بعد المعرفة بالله جل ثناؤه- علم البلاغة ومعرفة الفصاحة، الذي به يعرف إعجاز كتاب الله تعالى، الناطق بالحق، الهادي إلى سبيل الرشد، المدلول به على صدق الرسالة وصحة النبوة، التي رفعت أعلام الحق، وأقامت منار الدين، وأزالت شبه الكفر ببراهينها، وهتكت حجب الشك بيقينها. لقد علمنا أن الإنسان إذا أغفل علم البلاغة، وأخل بمعرفة الفصاحة لم يقع علمه بإعجاز القرآن من جهة ما خصه الله به من حسن التأليف، وبراعة التركيب، وما شحنه به من الإيجاز البديع، والاختصار اللطيف، وضمنه من الحلاوة، وجلله من رونق الطلاوة، مع سهولة كلمه وجزالتها، وعذوبتها وسلاستها، إلى غير ذلك من محاسنه التي عجز الخلق عنها، وتحيرت عقولهم فيها”.
فلسفة النشأة والتقعيد
عند متابعة أقوال أئمة البلاغة في القرون المتقدمة قبل تبلور علم البلاغة من أمثال العسكري والجرجاني، يظهر جليا لنا من خلال عباراتهم أنّ باعثهم لوضع علم البلاغة والكتابة فيه هو خدمة النص القرآني، وإعانة المتكلّم على تذوق بلاغة القرآن واستشعار حلاوته واكتشاف أسراره، والغوص في لجّته لاقتناص لآلئه، وهذا ما نرى أنه الباعث والمحفّز العام لهم.
أمّا الشرارة التي فجرت العمل على وضع علم البلاغة والتقعيد له، فكانت في سبيل خدمة النص القرآني أيضا، لكنها جاءت بهيئة الردّ على نظريّة “الصّرفة” التي جاء بها أبو إسحق إبراهيم النّظام (221هـ)، أحد أهمّ شيوخ المعتزلة، ونظرية الصرفة هذه، التي جاء بها النّظام، يقصد بها في اصطلاح المتكلمين صرف العرب عن إجابة التحدي الرباني والإتيان بمثل القرآن الكريم رغم قدرتهم على ذلك، فهي تبطل القول بإعجاز القرآن الكريم وعدم القدرة على الإتيان بمثله، فالعرب صُرِفُوا عن فعل ذلك، إذ يقول “الآية والأعجوبة في القرآن ما فيه من الإخبار عن الغيوب، فأمّا التأليف والنَّظم فقد كان يجوز أن يقدر عليه العباد لولا أنّ الله منعهم بمنع وعجز أَحدثهما فيهم”.
وتقوم نظرية الصرفة على 3 أسس عند أصحابها، الأول: الاعتراف بفصاحة القرآن وبلاغته ولكن ليس إلى حدّ الكمال والإعجاز، والثاني: إمكانية الإتيان بمثله فإنّ ذلك في وِسعِ بلغاء العرب وقدرتهم، الثالث: إنّ إعجاز القرآن يكمن في الحيلولة دون معارضته رغم إمكانية ذلك، ويقول الإمام الزركشي (794هـ) مبيّنا وشارحا قول النّظّام “إنّ الله صرف العرب عن معارضته، وسلب عقولهم، وكان مقدورا لهم، لكن عاقهم أمر خارجي فصار كسائر المعجزات”.
ويقول الشيخ محمد عبد العظيم الزرقاني (1360هـ) في كتابه (مناهل العرفان) “ومن الباحثين من طوّعت له نفسه أن يذهب إلى القول إن وجه إعجاز القرآن هو الصرفة، أي صرف الله العرب عن معارضته على حين أنه لم يتجاوز في بلاغته مستوى طاقتهم البشرية، وضربوا لذلك مثلا فقالوا: إنّ الإنسان كثيرا ما يترك عملا هو من جنس أفعاله الاختيارية ومما يقع مثله في دائرة كسبه وقدرته، إما لأنّ البواعث على هذا العمل لم تتوافر، وإما لأنّ الكسل أو الصدود أصابه فأقعد همته وثبط عزيمته، وإما لأنّ حدثا مفاجئا لا قِبَلَ له به قد اعترضه فعطّل آلاته ووسائله وعاق قدرته قهرا عنه، على رغم انبعاث همته نحوه وتوجه إرادته إليه، فكذلك انصراف العرب عن معارضتهم للقرآن”.
ومما تجدر الإشارة إليه أنّ القول بالصرفة لم يكن قول فريق من المعتزلة فحسب، بل غدا قول الشيعة الإماميّة في العصور المتأخرة، فهم ورثة الفكر الاعتزالي، ويقول بها كثير من علمائهم، ومنهم الشيخ المفيد (338هـ)، الذي يقول في جهة إعجاز القرآن “إنّ جهة ذلك هو الصرف من الله تعالى لأهل الفصاحة واللسان عن معارضة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- بمثله في النظام عند تحدّيه لهم، وجعل انصرافهم عن الإتيان بمثله -وإن كان في مقدورهم- دليلا على نبوته. واللُّطف من الله تعالى مستمر في الصرف عنه إلى آخر الزمان، وهذا أوضح برهان في الإعجاز، وأعجب بيان، وهو مذهب النظّام، وخالف فيه جمهور أهل الاعتزال”.
وكذلك يقول ابن سنان الخفاجي (466هـ) في كتابه (سرّ الفصاحة) “إن الصحيح أن إعجاز القرآن هو صرف العرب عن معارضته، وإن فصاحته كانت في مقدورهم لولا الصرف”.
وكان أوّل من تصدّى لهذه النظرية علماء المعتزلة أنفسهم، ومنهم الجاحظ تلميذ النظّام الذي كان يجلّه ويقدره أيما تقدير، كما كانت هذه النظريّة هي الشرارة التي فجرت في العلماء الرغبة بالبحث في إعجاز القرآن الكريم، فوضعوا نظريّة النظم التي أرساها الجرجاني، وتعدّ الأساس المتين الذي ارتفع على قواعده علم البلاغة فيما بعد.
ولله درّ الإمام عبد القاهر الجرجاني الذي استفاض في الردّ على نظرية الصرفة، فقال بنظرية النظم وتبنّاها وأقام أعمدتها خدمةً للنص القرآني وبلاغته وإعجازه، إذ يقول “يلزم على ادعائهم هذا أن يكون العرب قد تراجعت حالها في البلاغة والبيان، وفي جودة النظم وشرف اللفظ، وأن يكونوا قد نقصوا في قرائحهم وأذهانهم، وعدموا الكثير مما كانوا يستطيعون، وأن تكون أشعارهم التي قالوها، والخطب التي قاموا بها -من بعد أن أوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وتحدوا إلى المعارضة- قاصرة عما سمع منهم من قبل ذلك القصور الشديد، وإذا كان الأمر كذلك، وأنهم منعوا منزلة من الفصاحة قد كانوا عليها، لزمهم أن يعرفوا ذلك من أنفسهم، ولو عرفوا لجاء عنهم ذكره، ولكانوا قد قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا كنا نستطيع هذا قبل الذي جئتنا به، ولكنك سحرتنا، واحتلت علينا في شيء حال بيننا وبينه، وكان أقل ما يجب عليهم في ذلك أن يتذاكروه فيما بينهم، ويشكوا البعض إلى البعض، ويقولوا: ما لنا نقصنا في قرائحنا؟! وإذا كان ذلك لم يرد، ولم يذكر إن كان منهم قول في هذا المعنى، لا ما قل ولا ما كثر، فهذا دليل على أنه قول فاسد، ورأي ليس من آراء ذوي التحصيل”. وأعتقد أنه لا كلام بعد كلام الجرجاني في هذا الموضوع، فقد أحاط بادّعاءاتهم وأثبت ضلالها.
تعليق واحد
كاتبة رائعة ومميزة الحقيقة، تحس أنها تكتب بحيوية وضمير واهتمام كبير