كان لانتقال مركز ثقل النظرية النقدية من المدرسة الفرنسية إلى المدرسة الأنكلوأمريكية، أن فتح أمام الباحثين العرب الفرصة لأن يتعرفوا على مزيد من خفايا السرديات الكلاسيكية التي كانت بالأمس مكتوبة باللغة الفرنسية، والآن هي مترجمة في قسم كبير منها إلى اللغة الإنكليزية. وعلى الرغم من أن المدرسة الفرنسية لم تعن في أي مرحلة من مراحلها بأي استجابات أو اهتمامات كان قد قدمها الباحثون العرب، فإن تماسهم وتواصلهم مع تلك المدرسة استمر حثيثا بشكل مباشر أو غير مباشر. وأغلب هؤلاء مترجمون، وكانوا يصادفون مفاهيم ومصطلحات يتصرفون في تعريبها، حسبما يملكونه من دراية معرفية، لكن دون اتفاق في ما بينهم، يوجب عليهم توحيد تلك التعريبات مما يحول دون تعددها، ولاسيما ما يتعلق بمفاهيم جيرار جينيت التي كانوا يتحيرون إزاء تعريبها مثل جامع النص أو النص الجامع والقصة المثلية والسرد المتجانس والحكاية والخطاب والقصة، إلى غير ذلك. وبسبب تنوع تعريبات المصطلح الواحد أولا، وكثرة متروكات ما أُهمل في عملية التعريب ثانيا، والظن أن ذلك ليس ذا أهمية ثالثا، عانى النقد العربي المعاصر وما يزال يعاني من أزمة المصطلح.
بيد أن ترجمة كتب جينيت خاصة وكتب البنيويين وما بعد البنيويين إلى اللغة الإنكليزية، وما وقف عنده منظرو المدرسة الأنكلوأمريكية من مصطلحات وإشكاليات خاضوا فيها وتعمقوا في أبعادها، فتح ويفتح الباب لحل أزمة المصطلحات في نقدنا العربي. بعد أن صارت مدلولاتها المفاهيمية أكثر وضوحا بما تم تقديمه من تصورات وتنظيرات، كانت الترجمة عن الفرنسية قد صعَّبتها أو أشكلت في تعريبها، وأحيانا تغاضت عن طرحها بسبب ما تتطلبه من وقوف مستفيض وغوص هو بحد ذاته عمل بحثي يثقل كاهل المترجم ويذهب به إلى دروب لا يعرف منتهاها. ولذلك فضّل اللجوء إلى المعنى اللغوي أو البلاغي القديم الذي معه يأمن من الخوض في الأبعاد المعرفية وما تحتاجه من خلفيات فلسفية وتاريخية هي أوسع من أن تحيط بها عدته التي هي نقدية أكثر منها فلسفية.
ولا يعني هذا أن الأنكلوأمريكيين أكثر براعة من العرب في الترجمة عن الفرنسية، وإنما هي قصدية الفعل الترجمي التي معها تختلف الأغراض؛ فالنقد الأنكلوأمريكي، كان يسعى من وراء ترجمة علم السرديات الفرنسية البحث عن الهفوات والثغرات والنواقص، التي معها يستطيع المنظرون الجدد تقويض تلك السرديات ومبادلتها بأخرى. ومن هنا سموا نظريات السرد الفرنسية بالكلاسيكية، في حين سموا سردياتهم بما بعد الكلاسيكية.
ومن المفاهيم التي رصدوا ثغراتها ما يتعلق بالضمائر والأصوات، والسارد والمؤلف والمسرود وغير المسرود، والسرد المتجانس والطبيعي. فأضاؤوا مناطق كانت معتمة وكشفوا عن خفايا كانت مهملة. وهذا ما أعانهم على بناء نظريات جديدة لا تستند إلى السابق الكلاسيكي، إلا لأجل أن تتجاوزه أو توسِّع فيه أو تبتكر غيره. وقد بانت طلائع هذا التوجه بالحملة المنظمة والمكثفة في سبعينيات القرن الماضي على يد هايدن وايت فلسفيا، ثم توضحت في الثمانينيات والتسعينيات نقديا على يد آن بانفيلد وجيمس فيلان وديفيد هيرمان وبيتر آبود وبراين ماكهيل وبيتر رابينوفيتز وبراين ريتشاردسون وغيرهم. وقد نال جيرار جينيت كثيرا من الانتقاد والتخطئة جراء تلك الحملة فما كان منه إلا أن قام بالرد في كتابه (عودة إلى خطاب الحكاية) وفيه إشارات تدل على أن السرديات الفرنسية أُخذت على حين غفلة مثل قوله: (تذكر آن بانفيلد ببعض الاستخفاف، أولئك المؤلفين بارت وتودوروف الذين أكدوا استحالة حكاية بلا سارد، غير أنني لا أتردد في الانضمام إلى هذه الزمرة الجديرة بالشفقة). إن هذه المباغتة التي صدمت جينيت ومجايليه هي نتيجة متوقعة لذاك التنافس المعرفي المحموم الذي أبداه النقاد الأنكلوأمريكيون. وقد يذهب الظن إلى أن النقد العربي ليس له في هذا كله ناقة ولا جمل، لكونه اعتاد على الاتباع واقتصر باعه على التطبيق. بيد أن الأمر ليس كذلك إذ أن في إمكانه أن يفيد من ذاك التنافس، فيستدرك ما فات النقاد والمترجمين ويحل أزمة المصطلح وربما يظفر بمسائل تخدم توجهاته في دراسة الأدب العربي وتفتح آفاقا جديدة للاستزادة التي معها تطوى صفحة الاتباع والتبعية إلى الأبد. وليس أوضح في التمثيل على كيفية الإفادة من التنافس من مصطلح
(metalepsis) وكان جيرار جينيت قد اجترحه لأجل أن يشرح الطريقة التي بها يحصل التجاوز على أعراف السرد وقواعد بنائه ومسلمات النظر إلى عناصره. ولو كان يعلم أن هذا الذي اجترحه سيكون كعب اخيل الذي منه ينفذ سهم المنظرين ما بعد الكلاسيكيين إلى منجزه لما طرحه البتة، فقد تمكنوا من تحويل المصطلح إلى نظرية قائمة بنفسها ليس لجينيت فيها سوى أنه مجترح، ابتكر فأخطأ.
وإذا كان جينيت قد استجلب الجذر (lepsis) من الأدب الهومري وطوّعه للغة الفرنسية، فإن الترجمة الإنكليزية استندت إلى ذات الأدب الذي هو في عرف الغربيين يمثل أصلهم الذي منه استقوا قواعد أدبهم. ومن ثم لا يكون الإشكال لغويا إنما هو اصطلاحي من ناحية الماهية والوظيفة. وقد وجد مترجمو (خطاب الحكاية) صعوبة في تحديد مقابل عربي للمفردة الفرنسية
(metalepese) وأكدوا أن هذا أمر عام في النقد العربي، واصفين الأمر بـ(مشكلة المصطلحات) واقترحوا – اجتهادا لا حسما ـ إرجاع المفردة إلى البديع في كتب البلاغة العربية وهو (الانصراف). وطلبوا ممن يعيب عليهم نتائج هذا الاجتهاد أن يتعود تقبله (لأنه أصوب لغويا على الأقل مما يستكين له ويدعو إليه) لكنهم استندوا في تعريب diegesis وdiegese إلى الترجمة الإنكليزية التي أنجزتها الأمريكية دجين لوين لكتاب (خطاب الحكاية) فعربوهما بـ»الحكاية الخالصة» و»الكون القصصي» على التوالي.
ومن المؤسف أن (مشكلة المصطلحات) لم تدفع مترجمي جينيت إلى التعمق في تتبع الأسباب، وهو ما فعله المنظرون الأنكلوأمريكيون، انطلاقا من وازع التنافس المعرفي الذي جعلهم يغتنمون الثغرات في طروحات الفرنسيين، خاصة جينيت كونه كان الأكثر تعقيدا في أسلوبه وكثرة اشتقاقاته واستدراكاته، إلى جانب أن جينيت نفسه أظهر تحيرا وتشكيكا وهو إزاء تحديد مصطلحاته، ومن ذلك مثلا المفردات التي جذرها واحد وهو lepsisحتى قال: (هنا نواجه متاعب الاصطلاح ومصائبه).
عموما استطاع منتقدو جينيت بدءا من عام 1983 أن يحولوا مفهوم metalepsis من مجرد إشكال اصطلاحي سببه عدم طواعية المفردة للتحديد المنهجي إلى أن يكون نظرية قائمة بنفسها تندرج في علم السرد ما بعد الكلاسيكي. وممن ساهم في التبلور النظري ماري لوري رايان 1991 وديفيد هيرمان 1997وديبرا مالينا 2000 ومونيكا فلودرنك 2003 وجيف ثوس 2015 وجان البر واليس بيل 2016 وليس انتهاء بإروين فايرسينغر وسونيا كليميك وويرنر وولف وجون بيير وغيرهم.
وكان من نتائج هذا التبلور أن توضحت الأبعاد المعرفية التي كان جينيت قد شخّصها تطبيقيا، لكن أشكل عليه تحديدها نظريا، فصعب على المترجمين العرب إيجاد مقابل لها. واليوم مع هذا الكم الكبير من الدراسات التي أسفرت عنها نظرية metalepsis، يغدو أمر الترجمة متيسرا استنادا إلى ما قدمه أولئك المنظرون من كشوفات نظرية وتطبيقات إجرائية.
ومن ثم يكون تعريب metalepsis بـ( الانصراف) غير موفق لغويا ولا نقديا. فأما لغويا فلأن الفعل (صرف) يدل على رد الشيء عن وجهه، أما غفلة أو ارتدادا أو إمساكا أو امتناعا أو إعراضا، وكلها تعبر عن عدم الاهتمام بالشيء. وهذا ما لا علاقة له بفعلي الخرق والانتهاك اللذين يدل عليهما المفهوم الجينيتي. في حين يدل فعل (الإبدال) على وضع أمر مكان أمر آخر، أما خلفا أو تعويضا او تغييرا، وعنه ينتج – وهذا هو المهم – التعجب كقول الشاعر:
وَلَقَدْ عَجِبْتُ مِنْ الدّيارِ وَأهْلِها والدهرِ كيفَ يبدلُ الأبدالا
أما نقديا فللأسباب الأربعة الاتية:
أولا: إن metalepsis هو مرور من مستوى سردي إلى آخر خارج إطار السرد، وعبور مستحيل لا يكون إلا بشكل انتهاكي. والمثال هو عوليس الذي لم ير العاصفة كيف قذفت به إلى الجزيرة، لكن المؤلف تطفل وروى أحداثها للقارئ و(كل تطفل من السارد أو المسرود له خارج القصة على الكون القصصي، أو من شخصيات قصصية على كون قصصي تال، أو العكس يحدث أثر غرابة إما مضحكة وإما خارقة) فهل يصح وصف الانتهاك والتطفل بالانصراف؟ وأين هو الترادف بين فعل الانصراف وفعل الخرق واللعب؟
ثانيا: إن metalepsis ذو مستويات سردية تدرك من خلال تغير الضمير، وتتوزع بين شكلين : 1/ قصصي تال مختزل ويكون حين يحكي سارد غير محدد في لحظة غير محددة جزيئات حدث ما. 2/ قصصي كاذب ويتحقق إما بحكاية ثانوية يضعها السارد البطل في مستوى أعلى ويتولى أمرها، أو بأخبار يرويها شخص ثالث للسارد البطل عما كان حدث حين لم يكن البطل حاضرا. وما توزع السرد بين هذين الشكلين سوى عملية استبدال حال بحال وليس انصرافا من شيء إلى شيء. والحالية أقرب في التدليل على فعل الانتهاك والخرق من التشيئية التي هي مكانية وليست زمانية، ولا يخفى ما للمكانية من ثبوت وما للزمانية من حركة.
ثالثا: إن جينيت اجترح metalepsis وهو بصدد الحديث عن المفارقات الزمنية في رواية (البحث عن الزمن الضائع) بعد أن وجد عدة مقاطع تتعارض في أحداثها، فالمقطع الأول استعادي ذاتي، تتولاه الشخصية نفسها التي لا تريد لحكايتها أن تروي الأفكار الحالية. ويليه مقطع استعادي، لكن لا علاقة له بالمقطع الأول ولا بالمقطع الثالث الذي يعود مرة أخرى لاستعادة المقطع الأول، لكن الاستعادة ليست ذاتية، وإنما موضوعية تستشرف الحاضر في الماضي، وبوجود الاستعادتين الذاتية والموضوعية يكون هناك استشرافان ذاتي وموضوعي. ومعهما تكون الشخصية قد تحولت من موضع إلى موضع آخر يستحيل لها أن تكون فيه واقعيا. وليس التحول سوى تبدل وجينيت نفسه وقع تحت طائلة التبدل، فاستعمل الاستباق بدل الاستشراف والاسترجاع بدل الاستعادة.
رابعا: إن ضمير المخاطب في السرد غيري القصة والسرد مثلي القصة ينتهك معايير السرد ويخترقها ومعه تتبدل أدوار كل من السارد والمسرود والمسرود له. كأن تنفلت الشخصية من الكتاب وتخاطب المؤلف أو السارد، أو أن المؤلف يخاطب المسرود أو المسرود له. وفي كل هذه الأحوال يكون الاستبدال سمة دالة على الخارقية والانتهاك.
وبناءً على دلالة الاستبدال اللغوية ومدلوليةmetalepsis النقدية، اخترنا «الاستبدال» مقابلا اصطلاحيا، وهو غير ملزم لمن يرى أن المفردة غير قابلة للتعريب ومن ثم يستعملها كما هي ميتالبسيس. ونرى أن ما تقدم من توضيحات كاف لأجل أن ندافع به عن هذا الاختيار. ولعل آخرين يقتنعون به دون حاجة لأي دفاع. ويبقى الأمر اجتهادا في خضم ما في نقدنا من أزمة المصطلحات. وليس الاستبدال سوى واحد من مصطلحات كثيرة، يمكن الاجتهاد فيها وتصحيحها. وهذا يتوقف على مدى امتلاكنا وازع المؤازرة مع رغبة حقيقية وثقة أكيدة في التواؤم والاتفاق.