جدل متجدد تثيره ترجمة الشعر من لغة إلى أخرى، إذ هي عملية عبور محفوفة بكل المخاطر المتلفة للمعنى والمبنى. هي ليست مهمة تقنية تتحقق بنقل كلمات وأساليب ومضامين إلى قارة لسانية أخرى، طالما أن القصيدة أبعد كثيرا من أن تكون مجرد تركيبة لغوية ومفهومية.
في القصيدة تسكن أصوات وإيقاعات وأناشيد باطنية تتعايش في تناغم خلاق، بحيث يكاد يتفق الدارسون على استحالة توليد نسيج مطابق في أرض استقبال مغايرة، في ظل الاختلاف الطبيعي بين الأنساق التكوينية والثقافية للغات ومجاهلها النفسية وقوالبها الموسيقية.
ومع ذلك، تستمر الترجمة ويتكاثر المترجمون في ملعب الشعر، بل ويزداد الطلب على هذا الوسيط الضروري الذي يفتح أعين مجموعات بشرية وأذواقها ومعارفها على تجارب وآفاق شعرية قصية حاملة للقيم الجمالية والفنية والمعرفية.
بالترجمة إذن يستبطن قارئ الشعر درجة المغايرة والخصوصية وسمة التعددية الخصيبة في علاقة الإنسان بفن تعبيري أصيل.
مدارات المستحيل
بين الاستحالة والضرورة، وبين المثال المتعذر وشروط التجويد والإبداع في ترجمة الشعر، يعرض الناقد المغربي حسن بحراوي في كتاب بعنوان “مدارات المستحيل” (دراسات في ترجمة الشعر) صدر في الرباط عام ٢٠١١، أبعاد النقاش النقدي والأكاديمي حول ممكنات الترجمة الشعرية ومحاذيرها، مستحضرا تجارب وشهادات أسماء كبيرة في الأدب الغربي على غرار جاكوبسون كما في التراث العربي من قبيل الجاحظ.
ويميل بحراوي إلى تجاوز جدل حدي حول استحالة إنجاز الترجمة “الأمينة” للنص الشعري وحتمية اقتراف “الخيانة” في حق الإبداع الأصلي، ليبحث في المسالك العملية التي تؤطر نجاح العملية، حيث يرى أن من الواجب على مترجم الشعر أن يعطي الاعتبار لتلك الدينامية الداخلية التي تنتظم القصيدة، ويستحضر العناصر الصوتية والإيقاعية التي تشكل خصوصية كل شعر.
ويقر الباحث بأن الترجمة تقتفي أثر الأجنبي إغناء للأدب الوطني، وتخصيب العلاقة مع الآخر، فالترجمة تقود نحو ارتياد آفاق رحيبة لم يكن ممكنا بلوغها بدون وساطة ذلك الضيف الغريب، لكنه يستطرد أنه “لما كان نص الشاعر عبارة عن تجميع للكلمات، حيث يتعايش المعنى بكل ما يتضمنه من أحاسيس وصور، وحيث تتنفس المؤثرات النفسية، فإن هذا الكائن اللغوي هو الذي علينا نقله بكامل حمولته إلى لغة أخرى وتكييفه مع خصائصها، وعملية من هذا القبيل تحتمل خطر تضييع بعض ملامح النص الأصلي. ومن هنا كان يتعين على المترجم تقليص هذا التضييع المحتوم إلى حدوده الدنيا”.
كل اللغات أجنبية عن بعضها البعض بهذا القدر أو ذاك، ليس فحسب من جهة أشكالها الصوتية، يقول الناقد، ولكن -في أحيان كثيرة- من ناحية الطاقة الإيحائية التي تتضمنها تلك الأشكال، وهو شيء بالغ الأهمية في الشعر.
فالمترجم مطالب بإنجاز مهام عسيرة من أهمها أن ينقل إلى الأذن المستقبلة ذلك السحر المرتبط بموسيقى الكلمات، والذي يعود في جزء كبير منه إلى تأثيرات الوزن والإيقاع والقوافي.
يقول السير جون دنهام “إن للشعر روحا غير ظاهرة تختفي أثناء سكبه من لغة إلى أخرى”. وعلى ذات النبرة يرى الشاعر الإنجليزي بيرسي شيلي أن “ترجمة الشعر محاولة عقيمة تماما، مثل نقل زهرة بنفسج من تربة أنبتتها إلى زهرية”، بينما يفتح جاكوبسون نافذة للإمكان حين يقول إن “الترجمة الوحيدة الممكنة هي النقل الإبداعي الخلاق، أي إعادة كتابة القصيدة وإنتاجها من جديد”.
ترجمة إبداعية
وعلى ضفة مقابلة، يستحضر حسن بحراوي أطروحة إزراباوند الذي عرف بترجمته المتفوقة للشعر الصيني المطبوع بصعوبات جمة. ففي مواجهة أطروحة استحالة ترجمة النصوص، يتبنى إمكانية الترجمة الإبداعية للشعر. وفي نظره تصبح ترجمة النص الإبداعي إبداعا موازيا ومستقلا، والترجمة عملية تبادل عوض أن تكون مجرد عملية نقل.
لا يجدر إذن اجترار منحى إحباطي مثبط لهمم المترجمين يبدو شاردا عن تاريخ أدبي لعبت فيه الترجمة دورا طلائعيا في تلاقح التجارب الإبداعية عبر القارات، بمعناها الجغرافي واللغوي. لكن لا مناص -في المقابل- من الاعتراف بأن هناك دائماً فجوة في ترجمة الشعر تؤرق المترجم الأمين، حسب الكاتب بشير البكر.
هي فجوة ليست ذات طبيعة واحدة في جميع الحالات، بل هي تأخذ شكلها وحجمها من طبيعة النص الشعري المترجم، فشاعر كمحمد الماغوط -يضيف الكاتب في مقال حول الموضوع بمجلة “بيت الشعر” الإماراتية- لا يواجه مترجم قصائده إلى لغة أجنبية نفس إشكاليات مترجم شعر محمود درويش، “ويكمن عمق الفجوة هنا في خصوصية البرنامج الجمالي لدى كل من الشاعرين، وإذا اعتبرنا أن الكلمات في الشعر ليست هي الأشياء بالضرورة، بل رموزها، فإن اللغة تتحول إلى معضلة حقيقية في الترجمة، واللغة هنا ليست زادا من المواد بقدر ما هي أفق، حسب رولان بارت”.
ومن المفارقة أن أطروحة استحالة إنجاز الترجمة المثالية تغذي الاستسهال فيها، حيث يفتح مجال التجريب على مصراعيه وتتناسل المحاولات التي قد تختلف وتتعدد حول النص الواحد، ويضيع القارئ في متاهة البحث عن نص هو أقرب إلى الأصل. ويبقى أن الترجمة تخضع لنفس قوانين النص الإبداعي، حيث الزمن ينصف الجودة والدقة و”الأمانة” الأدبية التي تحرص على إشاعة رحيق الروح الشعرية.