ليس بيني وبين الشاعر محمد الغزي الذي رحل عنا بغتة يوم 18 يناير/كانون الثاني، تلك الحجب الكثيفة من الزمان والمكان، التي تفصلنا عادة عن شعراء من أبناء جيلنا. فقد ولدنا في العام نفسه 1949، وترافقنا في مدرسة مدينة حاجب العيون الابتدائية؛ وكان مبيتا شهيرا في أواخر الخمسينيات والستينيات يؤمه التلاميذ من شتى ولايات الجمهورية؛ لسمعته التعليمية. ثم ترافقنا في المعهد الثانوي في القيروان، حيث حصلنا على البكالوريا في الآداب، ثم في كلية 9 أبريل وهي أم الجامعات والكليات التونسية؛ ودرسنا على خيرة أساتذتها من خريجي السوربون. ثم فرقتنا سبل الحياة قليلا، فسافرت أنا إلى ليبيا ضمن بعثة تعليمية أواخر السبعينيات، لتدريس الفرنسية في مدينة مصراتة، وسافر هو إلى السنغال، لتدريس العربية. وله نص شعري شجي في هذا الفراق، أهدانيهِ في كتابه الأول «كتاب الماء/ كتاب الجمر»: «حز بمعصمه عِرقا/ وسقاني من دمه المسفوح/ كيف إذن يتركني/ من بعد أن اشتعلت نار البهجة في فحم الروح؟».
ثم جمعنا المعهد الثانوي في القيروان، فمواصلة المرحلة الثالثة، فالانتقال إلى التدريس في كلية القيروان منتصف الثمانينيات. وجمعتنا الملتقيات الأدبية نفسها في تونس وخارجه، والنشر في الجرائد والمجلات التونسية والعربية. ومع ذلك أجدني، وأنا أتحدث عن شاعر صديق، آخذ بالاعتبار أن المدارس الجديدة أو المستحدثة هي الأساس في ظهور ما يمكن أن نسميه «جيل المدارس»، أو «الجيل المدرسي» في هذا البلد العربي أو ذاك. وكان «الكتاب» أو «المدرسة القرآنية»، يجمع أجيالا متفاوتة في السن؛ في حين أن المدرسة الحديثة بمعمارها الغربي وطاولاتها وكراسيها، وهيئة معلميها، تجمع أجيالا من السن نفسها تقريبا. وهي أجيال تتحدر من أصول مدنيــة، ومن أصول ريفية. وأكثرهم ممن اضطر إلى الابتعاد عن أهله، وعن البيئة التي نشأ فيها ودرج؛ ليجد نفسه في بيئة جديدة، يتقاسم مع أصدقاء «غرباء» حياة واحدة حيث مناهج التعليم واحدة والقراءات هي نفسها، والآمال والأحلام هي نفسها. كانت المدرسة التي جمعتني بمحمد الغزي وأبناء جيلنا جيل الاستقلال بروحين: روح التضامن العمودي: المعلم/التلميذ المريد أو المبتدئ، وروح التضامن الأفقي بين أفراد الجيل اليافع أو الشاب نفسه. فنحن ننتمي إلى «الحدث الجيلي» نفسه. وأقصد الجيل الذي يعي نفسه، ويعي ما يفصله عن الأجيال الأكبر منه سنا. ومثاله في تونس «جيل الرومانطيقية» مع الشابي، فجيل حركة الاستقلال مع منور صمادح وأحمد اللغماني ونورالدين صمود وجعفر ماجد والميداني بن صالح وغيرهم، فجيل حركة الطليعة من أمثال الحبيب الزناد والطاهر الهمامي وفضيلة الشابي.. وكنا نحن الاثنين «مختلفين» عن هؤلاء؛ بل كنت مختلفا سياسيا عن محمد الغزي؛ إذ انتميت مبكرا إلى الحركة الماركسية السرية «برسبكتيف/ آفاق» مع السينمائي المعروف النوري بوزيد، والمناضل أحمد كرعود، وكنت في فواتح السبعينيات أحتفظ سرا بجل وثائقها؛ في مدينة بوعرادة شمال تونس، حيث كنت أدرس في معهدها. وأقدر أن جيلنا أدرك أنه يكون بعد الاستقلال، وبناء الجمهورية الأولى، مجموعا متجانسا استطاع أن يعيش تجربة تاريخية واحدة. وفي سياق هذا الوعي، اشتغلنا كلنا بـ»أنموذج» أو «مثال» أو «منوال»؛ أو «مكان ذاكرة» بالنسبة إلى الكتاب والمثقفين والمفكرين اللاحقين، الذين يتمثلون بهذه الحقبة، أو هم يُحيلون إليها. وكل هؤلاء تقريبا يستخدمون مصطلح «جيل» كلما تعلق الأمر بمجرى الزمن ودواماته.
ولعل رأي البعض في أن ثلاثين عاما هي الفترة الزمنية المثلى بين جيل وآخر؛ أي أن ظهور الأجيال يتحدد بالعام الذي يبلغ فيه أفرادها سن الثلاثين. وهؤلاء الذين يعيشون في عالم واحد، ويكون بينهم تواصل، نجدهم في الأغلب الأعم يعبرون عن هموم ومشاغل ومواقف مشتركة أو متقاربة. لأقل هناك في الشعر التونسي جيل ما قبل الاستقلال، وجيل ما بعد الاستقلال، بل هناك من الكتاب والفنانين والشعراء مثلا، من يرى أن المبدع الحق «لقيط» أو مجهول النسب متهم الأصل، وهو يرفض من ثمة أن يضع نفسه في جيل بعينه. ولعل أكثرها دلالة هذا الاستعمال الشائع «زميل دراسة»؛ وعليه تأسس نمط جديد من شبكات الصداقة والرفقة، يتقاسم أصحابها تجربة تاريخية مشتركة، أو شعرية، كما في علاقتنا أنا ومحمد الغزي وعلي اللواتي وبشير القهواجي وخالد النجار وفتحي النصري. ما يسوغ الرأي في أن «الجيل» مفهوم جديد زمانا ومكانا، بل هو مرتبة من مراتب المعرفة الأساسية، نشأت في ثقافتنا منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، في مركزين كبيرين: بلاد الشام ومصر. ثم كانت لهما فروعهما في سائر البلاد العربية. على أن خواص هذا الزمان وهذا المكان غير ثابتين، ومعاييرهما نسبية، على الرغم من وحدتهما العضوية؛ فقد يحل المركز محل الهامش، والهامش محل المركز، وقد يكون الزمان بطيئا في نظام سريع الحركة، وقد يكون أقصر في نظام عديم الحركة، وما إلى ذلك، مثل نسبية الماضي والحاضر، حيث الماضي هو المكون الفاعل كما هو الحال في ثقافتنا نحن، حيث تتعايش أجيال مختلفة حد التباين بالجملة.
برحيل محمد الغزي يفقد الشعر التونسي أحد أبرز رموزه من الذين تفردوا، ونقلوا بنسبة أو بأخرى شعرنا إلى آفاق عربية أرحب. والغزي صاحب تجربة متنوعة سواء في الشعر أو في أدب الطفل. وتجربة الغزي يتجاذبها طرف «الأبولونية» حيث الصدارة في الكتابة للتوازن والتناسب والتناغم… أكثر من «الديونيزوسية» القائمة على المصادفة والعشوائية والغرابة.. وربما راوح بينهما في نصوصه النثرية شكلا، وصورة ودلالة. ولعل ما يستأثر بالغزي وهو ينشئ قصيدته، أن يبلغ بالصورة شكلا من التماثل أو المحاكاة، والعثورعلى منطقة تتجاور فيها الأشياء أو يتلبس بعضها ببعض. وربما لاحت الصورة في بعض قصائده النثرية غريبة أو انقطاعا في سيرورة تجربته؛ أو هي تنطوي على تركيبة انفلات تجعلها تتوارى حتى على تشكلها الخاص.
ولكن قد يكون من المفيد ها هنا أن نقرأ هذا الشعر، من حيث هو مدونة واحدة، وإن تعددت القصائد وتنوعتْ، بل قد لا تكون القصيدة الواحدة عند الغزي وهو الذي يراوح بين الموزون (التفعيلة وقصيدة البيت) والنثري (قصيدة النثر والهايكو)، متى تمليناها في أبعادها الزمنية؛ سوى «قصائدَ» تشكلُ اللحظاتُ الزمنيةُ مجتمعةً، مختلفَ عناصرها ومكوناتِها.
ولعل هذا ما يجعل نصوص الغزي، كما هو الشأن عند بعض أبناء جيلنا، ولا أستثني نفسي؛ تنضوي على اختلافها، إلى «شعرية الأثر» بالمعنى العميق للكلمة.
أعني بـ«شعرية الأثر» أثر اللغة التي يطويها النسيان، أو ما يتبقى بعد أن تُعفيَ الذاكرة كل شيء. وهؤلاء إنما يواصلون ما بدأه آخرون، مثل محمود المسعدي «الشاعر الذي ضل طريقه إلى النثر»، كما كتبت عنه في حياته، في «مولد النسيان» و»من أيام عِمران» خاصة، وعلي اللواتي، حيث تنهض الأشياء والأسماء بـ»طوبوغرافية متخيلة»، تصل بين أزمنة وأمكنة متحولة، وتكتنه الفضاء، من حيث هو مكون جمالي لشعرية الأثر، وتؤسس الكتابةَ تَغْرِيبا لأوضاع طبيعية أو لأشياء مألوفة. وكل هذا يتنامى في تجربة الغزي في سياق شعري، يتخيل فيه الشاعرُ الماضي أكثر مما يستعيده، كما في مراثيه الشجية لزوجته. والشعر بهذا المعنى تجربة شمولية، والحداثة «حدثية». ومن ثم يند شعر الغزي، عن التصنيف الذي دأبنا عليه في دراسة الشعر العربي المعاصر، ويصعب أن تقرنه بأحد من رواده في المشرق. فهو صاحب تجربة خاصة.
والغزي لا يحب لقصيدته أن تكون متاهة، حتى وهي تحتفل بالأشياء وتسميها، ففيها تتقاطع الخطوط وتزدوج، أو تمتد في هيئات متشابكة مضفورة، أو تنكسر وتنحني وتلتوي. والشاعر يؤدي هذه الخطوط والهيئات في جمل وصور تنفك عن النسق اللغوي القائم، فلا مبادرة إلا للكلمات؛ حيث تضطرب في كل كلمة كلمة أخرى وتتململ.. حيث بإمكان الظل أن يمسك الريشة ويكتب، أو للون أن ينتصبَ رفيقا غامضا لأشياء من المحسوسات والمجردات. والشعر عند الغزي وهو قارئ ماهر للشعر قديمه وحديثه، ليس في تسمية الأشياء بما هي عليه، وإنما في طمس وجه التقابل فيها بين الصورة والعمق؛ في سياق يجعل الشعرية تكمن داخل التعبير وليس داخل المعبر عنه. وهذه مما لا يقدر عليه إلا الشاعر المتمكن من لغته ومواد شعره. وقد يتساءل البعض عن المؤثرات التي ألمت بالشاعر أو بأبناء جيله، والحق ليس ثمة ما يصل شعر الغزي في «كتاب الماء/ كتاب الجمر»، و«ما أكثر ما اعطى/ ما أقل ما أخذت» و«كثير هذا القليل الذي أخذت» و«سليل الماء» و«كالليل أستضيء بنجومي» و«ثمة ضوء آخر» و«استجب إن دعتك الجبال» بـ«النص الشعري المشرقي»، إلا أن «الأب» يمكن أن يخفي أبا آخر. لروحك السلام والرحمة يا صديقي.. يا أخي.