يثبت يوما بعد يوم، أن النص الأدبي هو من يختار منهج دراسته وليس العكس، كما يعتقد (وهماً) الكثير من الأكاديميين، الذين غالبا ما يلوون أعناق النصوص من أجل أن تستجيب لمناهج لا تتناسب مع محتواها ولا مع بنيتها، وأعتقد أن رواية “هاوية المرأة المتوحشة” لعبد لكريم ينينه، (وهي أول نص روائي للكاتب)، ترشح لقارئها بنية سردية زاخمة، بالأنساق الثقافية المضمرة والمُظهرة، ويحيل خطابها الضمني على أسلوب بنائها الشكلي.
أولاً- السرد التكاملي، ليس التكامل السردي.
يمكن أن نصف نصاً بانتمائه إلى السرد التكاملي، ليس لأنه متكامل سردياً، فهذا أمر يكاد يكون مستحيلاً، وإنما المقصود بهذا الوصف، هو توازن الثيمات (تعدد وتساوي الموضوعات المهيمنة على الخطاب من حيث الظهور)، بحيث يمنع هذا المنطق المتوازن أي موضوع من مواضيع السرد بأن يطغى على الآخر، وفي غمرة هذا التوازن في المنطق الموضوعاتي للنص، نجد هذا الأخير يجمع بين ثيمات عدة، مثل: التاريخي، والبوليسي، والعاطفي، والنفسي والاجتماعي، والحربي والواقعي، والفانتازي، والخيال العلمي، والسيرذاتي، والشهادة، والتسجيلي… وغيرها من المواضيع التي في الوقت نفسه هي (أنماط روائية إن هيمن أحدها على أي نص فيسمه بميسمه).. وهذا أسلوب ميز عديد النصوص الروائية واحترفه كتابها، لعل من أبرزهم، ماركيز، وهيمنغواي، ونابوكوف، وزافون، وبول أوستر، وإليف شافاق وغيرهم، ومن رواد السرد التكاملي في العالم العربي، نجد: عبد الرحمن منيف، ونجيب محفوظ، وبرهان شاوي، وبثينة العيسى، والطاهر وطار.. ونضع بينهم بكل هدوء، هذه الرواية لعبد الكريم بنينه.(واللافت للانتباه أنها روايته الأولى).
-لكن كيف تتكون الثيمة الأساسية في نص تكاملي، متساوي التيمات؟؟
من بين تلك الموضوعات المتعددة في المتن السردي، التي تمنح توازنا موضوعاتياُ للنص، تنشأ ردة فعل داخلية شبيهة بمبدأ الطرد المركزي عند دوران العناصر الموضوعاتية حول محورها، (وهو أسلوب الكاتب الخاص، في إدارتها وتركيب مشاهدها السردية والتحكم في حبكتها فنياً). فيتولد من بين تلك المواضيع المتساوية التي تشد بعضها وتمنع تفاوتها، مكون وليد ليس من ضمن تلك المواضيع المتصارعة ولكنه متواجد فيها جميعاً، وهو المكون الثقافي، إذ إن تعدد المواضيع السردية يغدو مركباً خطابياً يكشف وجهاُ بارزاُ هو: “ثقافة النص”، وإنما تحسب الثقافة بسمات الموسوعية والتعدد، وتسريد أنواع شتى من الموضوعات متعددة المجالات والتخصصات (وبعضها غير أدبي حتى، لكن تم تسريده بصنعة التأليف)، تشكل تلك الموضوعات والمجالات المتنوعة تراكماً توليفياً يمكن أن نسميه: (الخزانة الثقافية للنص)، فتؤدي تلك المقاومة المغلقة بين الموضوعات النصية إلى نشأة المكون الثقافي للنص، وهو الذي سيسود في النهاية ويتخذ صورة الهوية المميزة للنص (تعدد وتنوع التركيبة الثقافية لخطابه). ومن أجل دراسة هذا النص تستدعي هذه الهوية الثقافية منهجاً نقدياً ثقافياً نابعاً من صلبه، وليس مفروضاً عليه من خارجه.
ثانياً- الثقافة البنائية للنص (ثنائية الرواية/ الأغنية):
لا نكاد نفتتح رواية “الهاوية” حتى يقدم لنا الكاتب أول أنساقه الثقافية الغنائية بمحمولاته الطقوسية وأبعاده الحسية (السمعية-بالنغم- والحركية-بالرقص) ذات القيمة الأنثروبولوجية الخاصة بالعاصميين، (وهي الأغنية الراقصة) ثم جعل من هذا النسق قاعدة هيكلية ومنطلقاً للحكي في روايته. ويبدو أن الكاتب لم يستعمل هذا النسق لترسيخ التوجه الثقافي للنص فحسب، بل للإحالة على أن نسق بناء الأغنية ليس سوى نسق بناء هذه الرواية نفسها، حيث تبدأ كلاهما: باستخبار (مقدمة بطيئة)، ثم يصعد الإيقاع الدرامي إلى ذروته (وسط أو قمة التفاعل الدرامي)، وتنتهيان بمخيلص سريع، وهو آخر مرحلة من هذه التوليفة الغنائية/السردية، التي تسمى في الطقوس الشعبية بـ: (مخيلص الهدّي، أو الهدّاوي الذي تترافق فيه سرعة الإيقاع الختامي للأغنية بسرعة الرقصة العاصمية “البروالي”)، وتسمى في طقوس السرد (المخرج أو القفلة السردية، وبالمصطلح الدرامي الأرسطي تسمى الإيبولوغ). يقول الراوي في الصفحة (52) واصفاً مراحل الأغنية العاصمية: “تبدأ الموسيقى عندنا باستخبار أو موال، وهو المداعبة (في الممارسة الجنسية) ثم تنطلق الأغنية والموسيقى بالريتم الطبيعي المعتاد، وهو فترة الممارسة الفعلية، ثم يزداد الريتم سرعة إلى غاية الانتهاء، وهي مرحلة القذف”. يطابق الروائي في هذا المقطع بين الأغنية العاصمية وطقوس الممارسة الجنسية في الحياة الحميمية للبشر التي تترافق فيها اللذة بالميلاد، لكننا في آخر أنفاس الرواية حيث يتخذ الريتم تسارعاً رهيباً، نتفطن إلى أن هذه المراحل المتلاحقة ليست خاصة بمسار مراحل الأغنية الشعبية والحياة الجنسية فقط، بل إن الكاتب هنا يكشف لنا (بطريقة إيحائية) ريتم الرواية وإيقاعها الذي يبدأ بطيئاً كالاستخبار، ثم تحتدم الأحداث الجدلية بين مد وجزر وشد وجذب، بكل عنفوان ودموية، فيعلو ريتم الإيقاع ليبلغ ذروة الأحداث المتطابقة مع طقوس ممارسة الأغنية وممارسة الحب معاً. وفي آخر صفحتين، تتسارع الأحداث بشكل رهيب وتتوالى مفاجآت الحكي على القارئ، الذي يتلقى في هاتين الصفحتين ما لم يشهده في سائر صفحات الرواية وأحداثها. وكأنها رقصة الختام المتسارعة قبل قذف كل ما تمخضت عنه هذه المغامرة التي تحمل نهايتها حلاً شاملاً وسريعاً لكل الوقائع والإشكاليات التي مرت بالقارئ في المرحلتين السابقتين من هذه الرواية الأغنية. التي تتشكل من ثلاثة فصول، تحكي تناغما وتطابقاً تاماً من حيث الإيقاع مع الفصول الثلاثة للأغنية العاصمية.
إننا أمام مسار بنيوي محمول على ثلاث مراحل كبرى: 1)- بداية بطيئة تطرح فيها الرواية مشكلتها- 2)-وسط متفاعل تتقاذف فيه البطل أزمات عدة تزيد من تصعيد حالته وتعقيد وضعه ويبلغ فيه التصعيد الدرامي ذروته -3)- نهاية وحل سريعين، تمثلان المخرج أو الحركة الختامية أو القفلة (ويقابلها المخيلص الهداوي في الأغنية العاصمية كمرحلة نهاية الأغنية والرقصة) التي تحسم جميع المصائر وتنهي الصراع. وهذه المراحل هي التي سماها أرسطو مسار الحدث الدرامي الثلاثي، وسماها النقاد المحدثون (مثلث فريتاغ). القائم على: البداية والوسط والنهاية.
ثالثاً- التقسيم المورفولوجي للرواية على أساس الشخصيات:
لقد أخذنا على عادة تقسيم النص الروائي بحسب تطور الأحداث، أو بحسب توزيع العقد في الحبكة السردية، وهذا في الروايات التي تصنف روايات حدث. لكن يبدو أن الرواية التي بين أيدينا ستخالف هذا التقسيم في مراحلها، إذ يقسم الروائي فصوله على أساس قيمة الشخصية في السرد. فتصبح كل شخصية مضطلعة بأحداث قصتها وعقدتها وسردها الشخصي باعتبارها الراوي المتكلمة في ذلك الفصل، وهذا ينطبق على الفصلين الأولين مرزاق ودحمان. أما الفصل الثالث الذي يحمل عنوان (مرزاق ودحمان) فهو فصل حواري بينهما مع تفوق واضح لمرزاق في سرده، مما بوأه مكانة البطل، وجعل دحمان الشخصية الثانوية، أو المساعدة (مساعدة القارئ على فهم شخصية البطل).
وبعد الفصل في الشخصيتين الهامتين في هذه الرواية، تبرز شخصية أخرى لكنها رمزية والشخصية المحورية الثالثة، ويمكن اعتبارها أم الشخصيات، وهي شخصية الأم: أم مرزاق، وأم دحمان، وحين نصغي لهذه الشخصية سنجدها شخصية متجانسة متطابقة ومتماهية حد النسخ، حين يحكي كل منهما عن علاقته بأمه ويأخذ في وصفها فإنهما يصفان شخصية واحدة، وهو ما توصل إليه مرزاق في نهاية الرواية حين تفطن إلى أن دحمان حين كان يحكي عن سلوكات أمه وسهرها وعينها التي لا تنام، ومؤاكلته لها وتعامله معها بأنها لم تكن سوى علاقته المقدسة والشاعرية في الوقت نفسه بأمه.
لذلك فعلى الرغم من أن شخصية الأم هنا رمزية جداً وهامشية من حيث الحضور الجسدي والوظيفي، إلا أنها حاضرة وبقوة في خطابي الشخصيتين البارزتين مرزاق ودحمان، وقد أحاطها كلاهما بهالة تقديسية وحميمية منقطعة النظير، وخاصة حين يصفانها بنبرة من الحنين كأنما يصفان فردوساً مفقوداً، تحضر الحياة به، وينعدم معناها بغيابه. وإضافة إلى البعد الوجودي الذي أحيطت به شخصية الأم في لساني الشخصيتين مرزاق البطل ودحمان المساعد، فقد حباها الروائي بطاقة رمزية وهالة يوتيبية تهيمن على الجميع. مما يجعلها الشخصية البطلة رمزياً، التي تتفوق في هيمنتها السحرية على جميع الشخصيات. وتقف في الطرف الآخر على كفة توازن قوى الشخصيات في مقابل البطل البنيوي مرزاق.
وتستجمع هذه الشخصية الرمزية كل صفات الأم الجزائرية، والجزائر الأم، التي تنتحي كل الأمكنة والأزمنة. ولعل هذه القيمة الرمزية والطاقة اليوتيبية وهذا التطابق في تقديس صورة الأم جميع شخصيات الرواية، هو سر وضع العنوان الفرعي لهذا النص: [رائحة الأم].
1- الفصل الأول بعنوان (مرزاق):
مرزاق وهو البطل والراوي والذات الثانية للكاتب في هذه الرواية، وهو (القتيل الحي) والشخصية التي يحمل الفصل الأول اسمهما وهي من ترويه، باعتبارها بؤرة لسرد أحداث الفصل الأول من داخلها، فنرى العالم بعينيها، وتظهر جميع شخصيات هذا الفصل دائرة من حولها، كشخصيات ثانوية.
يسير هذا الفصل بريتم بطيء في تقديم الشخصيات على مهل وكأن الروائي يقوم بخط الملامح على وجوهها وأشكالها وأمزجتها بأريحية رسام متمهل، وهنا سنتعرف على عائلة البطل والراوي في هذا الفصل: “مرزاق بن سيدهم” من مواليد 1970، من حي العناصر، يتيم الأب، طالب جامعي لم يكمل دراسته بسبب صدمة نفسية ناتجة عن مشاهدته لحادثة مقتل أعز أصدقائه بطلق ناري من مسافة صفر على مؤخرة رأسه، من طرف إرهابي حديث العهد والتجربة، كان مكلفاً بقتله هو (أي مرزاق) فأخطأ الضحية وقتل صديقه (زيكو). لكن لا أحد يعلم بهذه الحقيقة حتى يلتقي مرزاق بالإرهابي (قاتل زيكو)، بعد سنوات عدة، في آخر صفحة من الوراية، دون أن يعلم بأن خاطب وزوج أخته الوحيدة، هو الإرهابي المكلف بقتله، فأخطأ وقتل صديقه (زيكو) ليتناثر مخ ودماء زيكو على جسد البطل مرزاق في تلك اللحظة، ويشوه جسده ونفسه وذهنه إلى الأبد. ولن يكتشف مرزاق سر هذه المتاهة -التي أدخلته مصحة نفسية، وأسقطته في بالوعة هاوية المرأة المتوحشة- إلا وهو يعقد قران قاتله الافتراضي بأخته الوحيدة في لندن، وبين اللحظتين، يهيم كل منهما على وجهه كارهاً نفسه والعالم، فيوحدهما التيه وحب الأم ورائحتها، فتفرقهما أزمة وطنهما، وتجمعها الغربة في بريطانيا حيث يصطدمان في الأخير وتربط بين القاتل والمقتول الافتراضيين علاقة صداقة ومصاهرة حقيقية. وعشق محروم من الأم إلى الأبد.
وكانت الشخصيات الثانوية التي تدور من حول مرزاق، وتصنع تراجيديا تمزقه هي:
– وريدة- الأخت الصغرى والوحيدة لمرزاق.
– زيكو- القتيل خطأ، أعز أصدقاء مرزاق، الذي قتل أمامه، ليتسبب في ازمة نفسية لمرزاق لم يشف منها أبدا.
– رابح- (ضابط شرطة)، قاني أصدقاء مرزاق المغتالين.
– ساعد- (شرطي 28 سنة) ثالث المغتالين من أصدقاء مرزاق.
– عليلو- صديق مرزاق عامل بمصنع النسيج، وزوج العالية صديقة مرزاق في الدارسة.
– دحمان- (الممرض): وهو الإرهابي الذي قتل زيكو بالخطأ، ليصبح من أعز أصدقاء مرزاق، وصهره في المهجر (بريطانيا).
– سيلفيا- الطبيبة البيولوجية البريطانية عشيقة البطل مرزاق.
– بالإضافة إلى عدة شخصيات هامشية: (حسن الحلواجي/ كرموسة بائع المواد الغذائية / موح لمباصي: الجزار، سي محمد الفرملي/ خيرة خادمة عائلة بن داود الإقطاعية/ عبد القادر شمينغو: أحد بلطجية الحي).
وقد قسمت هذه الشخصيات بتوزيع ملمتري ليس على هذا الفصل وحسب، بل على الفصول الثلاثة للرواية.
2- الفصل الثاني بعنوان (دحمان).
وهو فصل متفاعل يشكل لب الرواية أو الوسط الجدي للمارسة (في الحياة الجنسية/ والأغنية العاصمية)
ويحكي الفصل الثاني سيرة دحمان (الممرض): وهو الإرهابي الذي قتل زيكو، وكان لزاما على الروائي أن يحكي لنا قصة دخوله هذه العالم، لندرك أنه ضحية صعود قسري للجبل بعد تهديده من طرف الإرهابيين، ومساومته بإيذاء أمه. وكذا قصة تكليفه بأولى مهامه الجهادية التي أخطأ فيها، فقتل ويكو بدل البطل مرزاق.. وقصة احتجازه من طرف عائلة بن داود الإقطاعية، وقصة فراره منهم إلى لندن لمحو آثار ماضيه الأسود.
3- الفصل الثالث بعنوان: (مرزاق ودحمان):
وهو فصل سريع الإيقاع والأنفاس (على نسق سرعة المقاطع النهائية للأغاني العاصمية أو ما يسمى بـ: الهدّي/ الهداوي، والبروالي) وفيه لقاءات خاطفة بينها، وتعارف سريع، وصدام سريع ومصاهر سريعة، ومكاشفة بينهما تعرفها من خلالها انهما قاتل ومقتول افتراضيين جمعتهما حياة حقيقة، جعلت منهما المحنة الوطنية ضحية وجلاد، ومزقتهما ذاكرة مشتركة كمحرومين من فردوس الأم، ووحدتهما غربة جمعت جسديهما الجريحين.
رابعاً- المعمار الفضائي (والبعد البروكسيمي- علاقة الفضاء بالمكان):
تتوزع أحداث الرواية على عدة فضاءات مكانية، غير أن القلب النابض لكل تلك الفضاءات هو ذلك المكان اللغز، الذي استجمع مختلف مباهج ومآسي عاصمة الجزائر، عبر تاريخها، وحيكت حوله معظم أساطير ماضيها وحاضرها في الرواية؛ وهو تلك البقعة المظلمة بأدغالها وغموضها؛ المسماة: “هاوية المرأة المتوحشة”، والتي اختارها الروائي كمنطلق إشكالي للتعقيد السردي، بما يحمله هذا المكان من غموض، وإبهام، وتعدد الحكايات التي نسجها المتخيل العاصمي، وكذا وصفه الإيكولوجي والجغرافي والتضاريسي الذي يجعل منه؛ ليس إشكالية مكانية في الواقع فحسب، بل إشكالية تاريخية وجغرافية، وبؤرة أسطورية لكل المتناقضات التي يحتملها مكان لغز.
وعلينا أن نستعد كقراء ونتقبل (انطلاقاً من والوصف الأساطيري الغامض لهذا المكان اللغز) كل ما سيصدر عنه من أصوات وظواهر وأعاجيب. وبهذا أسس الروائي إشكالية نصه من هذه البؤرة المكانية، التي هيئها بطريقة يستطيع من خلالها قول أي شيء من المستحيل إلى الممكن.
تمتد أسرار هذا المكان (هاوية المرأة المتوحشة)، منذ العهد التركي إلى عهد الاستعمار الفرنسي إلى فترة الاستقلال، وكل فترة تمنح أسطورتها لذلك المكان المسافر عبر التاريخ بأسراره دون أن يغادر تلك الغابة التي تعبرها حبال التليفيريك فوق هضبة العناصر هي: [هاوية هائلة تفصل بين هضبتي حي العافية أو لاسيتي، وهضبة المدينة، وهي هاوية هائلة أطلق عليها الفرنسيون اسم (هاوية المرأة المتوحشة) بغاباتها المكونة من أشجار الصنوبر والبلوط والكاليتوس والخروب والزيتون والصفصاف وبعض النخل العاقر، واعشاب الدوم والديس واحراش كثيفة تمنحنا كثيراً من الخصوصية والمناعة، ولكل من يختبئ بها..] (الرواية ص16)، أطلقت عليها هذه التسمية منذ العهد التركي حين كانت الغابة في هذه الهاوية مصدر فرح وتسلية تنزه للعائلات العاصمية، إلى أن حدثت حادثة غريبة، وهي أنه أثناء جولة العائلات وفي غمرة حفلات الشواء واللهو والاستجمام، اختفى طفلان صغيران في الغابة حتى حل الظلام ولم يعثر لهما على أثر، وبقيت أمهما تنادي عليهما ليلاً ونهراً حتى سكنت تلك المرأة الغابة وفقدت عقلها: [وواصلت الأم البحث وحدها، كانت لا تنام، فأصيبت بانهيار عصبي، وفقدت عقلها، واستوطنت الهاوية، فلم تبرحها، كان السكان يضعون لها الطعام في مكان معلوم فتأتي وتأخذه، ثم تنصرف لتبتلعها الغابة من جديد، وحين يجن الليل تشرع في مناداة ابنيها بكلام أقرب إلى النحيب، أما في النهار فكانت تختفي في الغابة، يسمعون حركتها لكن لا أحد يراها، كانت شبحاً، وكانت الهاوية مملكتها الخاصة، فأطلق المحتل على المكان هاوية المرأة المتوحشة].
تحولت هذا الغابة بعد الاستقلال إلى مرتع لباعة (المقنين) من الأطفال والشباب، وإلى سوق سوداء لباعة الكحول والحشاشين، لكن أهم ما ميزها في مرحلة التسعينيات أنها كانت معقلاً حصيناً للإرهابيين ينطلق منها ويعود إليها مفجرو القنابل، ومنفذو الاغتيالات من المتطرفين، وكان أبرزهم في الرواية: دحمان الذي قتل زيكو، وانحدر نحو هاوية المرأة المتوحشة التي ابتلعته، ومن ثم صارت العائلات التي تخشى العار تقود بناتها اللاتي اختطفهن الإرهاب واغتصبهن، إلى تلك الهاوية ليختفين عن الأنظار إلى الأبد.
لقد كان هذا المكان بحق عقدة الفضاءات الروائية، مفترق طرق عبرت منه وانطلقت أهم أحداث التاريخ الجزائري من العهد التركي إلى احداث أكتوبر 1988، التي فتحت البلاد على كل تيارات الفتن والعنف. ولم تكن هاوية المرأة المتوحشة في النهاية سوى جزائر الأزمة. وحول هذه الهاوية تحدثنا الرواية عن أعمل معالم العاصمة ولتنسج لنا شبكة من الأماكن الفرعية، سرعان ما تهجم على القارئ، بكل روائحها وخصوصياتها [الشراربة، نهج عميروش، ساحة أول ماي، حي العناصر، زقاق ميموزا، حي المرادية، بئر مراد رايس، سيدي يحي، حي لعقيبة ببلكور، صالومبي، ميسوني]، ومن المعالم: [مستشفى مصطفى باشا، حديقة هايد بارك، سجن بربروس (سركاجي)، مصحة دريد حسين]. ولكل مكان ومعلم حكاية تغرف من تاريخ المدينة معارفها وتصلها بأحداث وعقدة الرواية، وتغذي نموها ونمو الشخصيات.
وسيلاحظ القارئ، بأن حركة الشخصيات على جغرافيا الأماكن، وحضور المكان في ملفوظات السرد والحوار لهذه الشخصيات، هي التي تحدد أهمية وهامشية هذه الفضاءات، ومن هنا، صارت الأماكن بدورها، شخصيات موازية للنماذج الشخوصية في الرواية، وصارت بدورها أماكن رئيسية وأخرى ثانوية، وأخرى هامشية على غرار مستويات الشخصيات التي منحتها هذه الروح، من خلال نوعية وخصوصية العلاقة الإنسانية بين الشخصية والمكان.
خامساً- التقسيم الرمزي للرواية:
داخل إطارها الكلي تحتوي هذه الرواية على روايتين فرعيتين رمزيتين:
– الرواية الفرعية(الرمزية)الأولى: هي رواية “الأم”، باعتبارها الفردوس المفقود لدى جميع الشخصيات، والقاسم المشترك بينها، والخط العاطفي الذي لم ينقطع أبداً، والثابت الذي لم تغيره الأحداث ولا الصراعات، حتى إن كان القارئ يقف أمام شخصية الأم الخاصة بإحدى الشخصيات، فإن الخطاب يشعره بفقدانها أثناء التحدث عنها، فوجودها الرمزي هنا هو وجود مفارقاتي أو هو “وجود فقدي”، أي: وجود مهيأ للفقد، هذا الفقد النوستالجي الذي يبعث على تنامي تقديس هذا الكائن الموجود/ المفقود معاً، المقدس المتعالي على أبنائه الأرضيين الذين يبدون كائنات طائشة وتائهة في حضرته يتيمة في غيبته. أما حين تفتقد شخصيات الرواية، أمهاتها فعلياً، فإن عالمها يختل ومنطقها يتبعثر وتفقد بوصلتها، وتضل الطريق، لتنفتح أمامها هوة فاغرة لا سبيل إلى تجاوزها، لولا “رائحة الأم” التي تبقي على أنفاس حياة تلك الشخصيات. وهي العنوان الفرعي لهذه الرواية، الذي تبرره كل الشخصيات والأحداث والخطابات في شكل كورال متناغم.
– الرواية الفرعية (الرمزية) الثانية هي رواية الأنساق الثقافية: حيث تتدفق على القارئ أكداس من الأنساق، منها ما هو خاص بالأغنية الشعبية العاصمية، بكل طبوعها، ومطربيها، وحفلاتها، التي تعتبر فضاءً حيوياً تتنفسه الشخصيات في حلها وترحالها الاغترابي، فتتواتر إلى إذن القارئ عبر تعاريج الرواية ألحان أغاني عدة تسترفدها الرواية منها: (أغنية الباجي: “يا المقنين الزين”، وأغنية الهادي رجب: “قلبي يا بلادي لا ينساك”، “وعبد القادر الوهراني: “حسراه على رجال البهجة”، وحسين سلاوي وأغنية “كمان باي باي”، والهاشمي قروابي وأغنية “واش داني علاش مشيت”…)، وغيرها كثير من تسريدات الأغاني العاصمية التي تحفر كثيراً في تاريخ المكان وتكشف بعده النضالي والإنساني. كما تتضوع الرواية على قارئها، بوصفات الطبخ العاصمي المرتبطة وثيقاً بالشخصيات، وثقافة المكان والزمان، باعتبارها أنساقاً ثقافية لامادية منها: (طبق السكابتش، البركوكس، العصبان، الحريرة، الطعام، الفطير بالزبيب، الرشتة، بطاطا بالفليو والريحان..)، كما تحفل الرواية بجملة من العادات العاصمية الراسخة، التي ترسم بعداً أنثروبولوجياً يستحق دراسات أكاديمية وفنية منفردة، مثل: ( الألعاب: الرشايقة، تربية طائر الحسون، المقنين، تربية الديوك، جلباً للتفاؤل والحظ، زيارة ضريح سيدي عبد الرحمان الثعالبي، وطقوسها المناسبايتة: كتبييض الجدران بالجير، وهو سر تسمية العاصمة الجزائرية بالبيضاء، بسبب هذه العادة، احتفالات القرقابو، الاحتفال بالأطفال بمناسبة بروز أسنانهم الأولى، عادة عرس بغل للعزاب كي يسترجعوا بعض الأموال التي انفقوها في أعراس المتزوجين)… ومن يتتبع الرواية سيجد، أنساقاً أخرى غامضة تطلبت من الروائي شرحها، للقارئ، مثل أسماء المدن والأحياء العاصمية التي بقية لغزاً حتى لدى العاصميين أنفسهم، مثل اسم بوزريعة، ودرارية، وكذا شرح تسميات دخيلة من لغات أخرى، مثل كلمة الهزي، وبعض الأواني، والألبسة النسوية والرجالي، وكثير من الحرف، التقليدية كصناعة الحلوى عند كبار الحلواجية، وصناعة الجير، والقصدير، وغيرها، وحين تدخل هذه الأنساق الثقافية، المادية وغير المادية في حوراية سردية، يشعر القارئ بأنه بأنه يفتتح رواية طقوسية داخل الرواية الأم. وهذه الروايات الضمينة، باستقلال مواضيعها يمكن أن تشكل منفردة؛ دراسات أنثروبولوجية، مستقلة عن جسد الرواية الأم، أو متناغمة معها.
سادساً- تشطير البعد الدرامي والإيقاع السردي:
يقوم الكاتب في هذه الرواية بحركة فنية، أحسب أنهما أهم استراتيجية تشويقية للقارئ، وأبرع حيلة سردية، حسمت تعلق القارئ وصنعت تشويقه في هذا العمل، وهي أنه لم يؤسس خطه الدرامي على تسلسل منطقي، أو على تطور تصاعدي في صناعة الحبكة، وتنامي الأحداث سببياً. بل لجأ إلى خيار انتحاري، كان يمكن أن يقصم ظهر الرواية ويفصم بناءها الذهني عن قارئها، لو لم يجهز على القارئ في الصفحة الأخيرة، بنفس السرعة الهجومية التي قام بها في بداية الرواية. مما يجعل إيقاع النص كالآتي: امتداد بطيء بين سرعتين رهيبتين أطبقتا على القارئ في أول وآخر أنفاس الرواية، وهذه الاستراتيجية (معرفة متى تسريع وتبطيء السرد)، والتي يندر أن نجد كاتب يحسن التحكم فيها، هي مربط فرس نجاح هذا النص.
بالإضافة إلى الركن الأهم في هذه الحركة، وهو القيام بشطر العقدة الدرامية إلى شطرين، وزعهما الكاتب على القسمين السريعين من النص (البداية السريعة والنهاية السريعة)، فيما تكفل الامتداد النصي لسرد الأحداث الواقعة بينهما ببطء خبيث (خبث فني طبعاً) سمح للكاتب بالتلاعب بأعصاب القارئ على أقل من مهله، وخاصة في وقفات الوصف التي جعل منها محطات استراحة طويلة ومعذبة لذهن القارئ الذي يزداد احتقان فضوله كلما تباطأ السرد وأجل أسئلته المتنامية، على إثر إعطائه الجرعة الأولى من الإشكالية، في بداية الرواية، وتأجيل الجرعة الثانية المكملة لها إلى آخر صفحة. والمشكلة هنا أن القارئ لا يستطيع المرور معرفياً إلى إدراك فحوى الجرعة الدرامية الثانية ليطفئ تأجج فضوله، إلا بقراءة أدق تفاصيل الوسط الوصفي البطيء للرواية.
– ملاحظات ختامية:
– تبدأ الرواية بداية درامية ببداية هجومية سريعة تتمثل في استباق خاطف للأحداث (مثل تلك الأفلام التي تبدأ مباشرة بجريمة مفاجئة، فتحدث صدمة في ذهن المتلقي الذي لا يعرف من القاتل، ومن المقتول وما سبب القتل، وكيف ولماذا وأين ومتى حدث ذلك؟؟):
ففي لحظة تركيز الإرهابي (المجهول في الفصل الأول) المكلف بقتل صاحب الجاكيت الحمراء مرزاق، يطلب زيكو من صديقه مرزاق أن يعيره الجاكيت الجديدة كي يجربها. ولم ير الإرهابي هذه اللقطة لأنه في لحظة تركيز مغمض العينين.
ينزع مرزاق الجاكيت الحمراء، ويلبسها لصديقه زيكو.. أمام المنزل، وهنا يخرج الإرهابي ويقتل صاحب الجاكيت الحمراء كما أمرته قيادة الجماعة الإرهابية التي تحتجز عائلته، والتي طالبته بعملية فدائية لإتمام انخراطه فيها.. ينفذ الإرهابي المبتدئ العملية بتوجيه البندقية مقطوعة الماسورة (محشوشة)، إلى قفا صاحب الجاكيت، فيفجر رأسه، ويهرب باتجاه هاوية المرأة المتوحشة ليتوغل في أدغالها، ويسلم السلاح. للمجند الذي ينتظره هناك. هذه هي البداية الهجومية السريعة التي يصدمنا بها الكاتب في هجومه الخاطف على القارئ بهذه الأحداث المتسارعة. والمتقطعة الأنفاس، فتثور جملة من الأسئلة في ذهن القارئ: من يكون زيكو القتيل، من يكون مرزاق الذي ألبسه الجاكيت، من هو صاحب الجاكيت المقصود بالقتل بينهما، من يكون القاتل؟؟ هل تم التفاهم بين مرزاق والقاتل؟ من هو القاتل الحقيقي؟ هل هي جريمة مدبرة أم خطأ في التنفيذ؟؟؟؟؟؟ إلى ما لانهاية من التساؤلات، التي يأسر بها الكاتب قارئه من أول مشهد درامي.
– يتكفل الوسط الدرامي للأحداث بالبداية المنطقية لتبرير جميع أسئلة القارئ بالتعريج به في تلافيف ذاكرة وحياة الجزائر من خلال شخصيتين فقط: مرزاق ودحمان في اقتصاد بلاغي عجيب، يحمل من المعارف والتفسيرات في لغة ومسميات وثقافة الجزائريين، فتبدأ معالم انقشاع الغموض في التجلي، وتبرر أشياء كثيرة تحيط بملابسة الحدث، وما يكاد القارئ يحيط معرفيا بها، حتى يطبق عليه الكاتب بالشطر الأخير والخاطف من هذه الرواية الأغنية.. فيجد القارئ أنفاسه تتسارع من جديد مع تسارع نبضات الإيقاع النصي. خاصة حين يبدأ دحمان (الإرهابي قاتل صاحب الجاكيت الوهمي)، في البوح لمرزاق (صاحب الجاكيت الأصلي، المستهدف من العملية). وهنا يعيد القارئ فرز خيوط السرد التي تشابكت في بداية النص الخاطفة، وتمددت نحو منابتها في وسطه البطيء، وحُلَّت بضربة سريعة قاطعة في نهايته الخاطفة.
– وتنم هذه الاستراتيجية السردية التي لم أصادفها في السرد الجزائري من قبل (في رواية مبنية على الشخصية)، عن قراءات عميقة وخبرة تأليفية ليست وليدة اليوم، أو الأمس، رغم أن الرواية هي الأولى لصاحبها.. وما سيلفت انتباه القارئ ، تقنيتان برع فيهما الكاتب كما لم يعل غيره، الأولى توظيف تقنية الاستباق، بشكل يتفوق فيه على استعمال الطاهر وطار للتقنية نفسها (وقد كان من أبرع من استعملها في افتتاح رواية اللاز)، ذلك أن استرجاع الطاهر وطار، ارتبط بوصف مشهد بؤس روتيني وراكد، عاد إليه في نهاية الرواية بنفس الروتين الراكد،(مشهد اصطفاف المجاهدين في مركز البريد لتلقي رواتب جهادهم.. وهو مشهد رمزي حاد الدلالة وعميق المغزى رغم بطئه) والمشترك بين المشهدين هو حكاية سيرة اللاز، بينما استباق رواية الهاوية، مرتبط بحادثة قتل غامضة وصادمة مليئة بالدراما والحركة، حتى أن هذا الحدث الابتدائي هو ذروة جميع الأحداث في الرواية، وحين بدأ النص بأقوى حدث (على نمط أفلام الأكشن والبوليس)، فإنه قد منح النص هويته الدرامية. والتي ستتأكد من خلال العودة إلى نفس اللحظة الدرامية لتفسر وتفجر هذا الحدث من جديد لكن ليس بعين مرزاق (صاحب الجاكيت، أو الضحية الوهمية)، بل من خلال اعترافات وبعين دحمان قاتله الافتراضي.
– وهذه الهوية الدرامية هي التي سيكون لها الأثر الأبرز إذا فكر أحد المخرجين في تصوير هذه الرواية في عمل تلفزيوني أو سينمائي.. والرواية بالفعل سيناريو عمل درامي شبه مكتمل. ولو قرأها أهل الفنون السمعية البصرية لتأكدوا من هذه السمة المشهدية الطاغية والعابرة للفنون، وإني لأدعوهم إلى قراءة هذا النص، الذي يسجدون فيه مواطن شتى لإعادة الكتابة الدرامية، والبعث في أكثر من فن مشهدي يرشه هذا النص ويترشح باقتدار، حيث تثري الرواية باقي الفنون المحيطة بها، والتي تعاني حالياً من افتقار سيناريستي رهيب، بينما تكتنزه روايات جزائرية عدة على غرار هذا النموذج، ولكن أهل الفنون الأخرى (التلفزية والسينمائية والمشهدية عموماً) لا يقرؤون..