أولاً- مأساة البطل/ مأساة الوطن.
تنفتح الرواية دون مقدمات على تدفق حمم الحنق التي ينفثها، العاشق المغدور، البطل والراوي “العربي”، في وجه غريمه “بوحلابة” الذي الكان قدوته في الصغر، فصار عدوه الأبدي في الكبر: “أيها الشيء الوضيع، ختلتني في لحظة حرجة منفلتة… كانت أقصر من ارتداد طرف عينيك المنافقتين، خانك لسانك الذي رفعك كالدخان عمراً، كنت مملوكك المطيع… أنا البدوي الجلف الهارب من خيمة خيمتي المشعّرة، كنتَ استثناءً لأننا كبرنا معاً على طيش الطفولة… يا بوحلابة لن أدعي أني أحببتك يوماً، ولكن قدر الله لي أن أتعايش معك بضع سنين… طاف بروحي إحساس ثقيل كرّهني في كتبك، وبذخك حين حذرني منك الدرويش رايكا، إيماناً مني بأن أن رايكا ولي صالح، إذ قال لك وأنا أشهد [أنت سَلوبّار عندك عينين مَدامة في راس بوندي]” (الرواية ص 18).
تعني كلمة سلوبار الفرنسية: salopard : الوغد، أما كلمة “مَدامة”، وهي فرنسية معربة، فتعني في العامية الجزائرية: “المرأة اللعوب”، بينما كلمة “بوندي”، وهي كلمة فرنسية أيضاً (bandit)، فتعني، لص العصابة، أو قاطع طريق. كأنما استجمع الدرويش “رايكا” مواصفات خصم البطل الراوي “العربي”، ورفيق دربه الغادر “بوحلابة”، وجمده في مثلث مورفولوجي يرسم في وجهه قبيح فعاله الخسيسة: [أنت وغد، تملك عيني امرأة لعوب، ثبتتا في رأس لص عصابات].
يستجمع البطل الراوي العربي أنفاسه ليخبرنا عن خديعته من طرف قدوته وموطن أسراره حبيب الأمس عدو اليوم :”بوحلابة”: [لم يمض أسبوع على كلام رايكا حتى ختلتني، يوم استشرتك لأخطب العارم، بنت اليماني تاجر الخرداوات الأول في البلدة، وأنا لم أتم الثلاثين، أمهلتني ثلاثة أيام لتمهد لي طريق الحرير، كفتكَ لتخطب البنت لنفسك النتنة وتدخل بها، وأنا ثمل، لأول مرة في كثيب الرمل… لم أدرك فداحة جرمك الذي ثبطني على الزواج عقداً من الزمان، حرّمت النظر إليك، وحبب إلي اتِّباع الشهوات، ضيعت الحكمة فضعت: أنت سلوبار، عندك عينين مدامة في راس بوندي] (الرواية ص19).
جاءت هذه اللازمة على لسان درويش شريد بين الأزقة يدعى “رايكا”، وعلى خطاه؛ يتدروش بطل الرواية العربي، عشر سنوات هائماً في اللاشيء، تتقاذفه الحانات والأزقة، بعد خديعة العمر التي حولته من أستاذ في معهد التكوين المهني إلى أشقى شذاذ االآفاق حياة ومصيراً. يرقب خراب عالمه معتكفاً في محراب دواخله المظلم، وهارباً إلى الأمام في عنتٍ وسعي مازوشي مؤلم. وخلال هذا العقد الضائع من سنوات زهرة شبابه، كانت الجزائر بلده تحيا عشر سنوات من التيه والخراب والضياع أيضاً، يرسم لنا عوالم طبقية ثلاثة من التيه المتعدد يحيا فيها البطل: عالمه الخارجي العام الذي يحياه سياسياً في بلده الضائع (التيه الأول)، عالمه الخارجي الخاص الذي يحياه اجتماعياً في محيطه الأسري والمهني الشارد (التيه الثاني)، عالمه الداخلي الخاص، الذي يحيا يعرك فيه عُقده (نفسياً)، وعزلته وتدروشه (روحياً) يتساوى فيه مع الدرويش رايكا في معايشته لعالم الروحانيات والماورائيات التي ترسم هنالك جزءً من بحثه عن معنى للعالم ولذاته ولمن هم من حوله، وتترجم الصورتان النفسية والروحية دلالياً، ذلك الخراب الداخلي الذي ينخر جوف عاشقنا المغدور. البطل العربي.
ثانياً- الهندسة السردية ثلاثية التركيب.
1- البطل النامي ثلاثي الأطوار:
أول ملاحظة في تصميم دور البطولة في هذه الرواية؛ أن بطل العنوان والغلاف (رايكا)، ليس هو بطل الرواية والأحداث الذي هو (العربي) صديق الدرويش رايكا، وهو الذات الساردة، وهذا أمر لم يبرر فنياً على امتداد الرواية.
فيما يتشكل الإطار السردي للبطولة في هذه الرواية من العناصر الخارجية التي تحيط بشخصية البطل العربي، التي تنقسم إلى ثلاثة مراحل:
– طفولته التي يحكمها حوضه الأسري حدده يتمه الأبوي والأمومي الذي عوضه أب وأم بديلين: جده المخفي وجدته الياقوت، وحوضه الثقافي التعليمي الذي حدده الكُتّاب.
– وشبابه: الذي تميز بدخوله الجامعة
– وكهولته التي وسمها دخوله إلى مجال العمل (موظف بالبنك) وطل ذلك في فضاء صحراوي ينتقل فيه بين عين الصفراء وبشار.
تنسج هذه المراحل الثلاث منطقاً طبيعياً ونامياً على المستوى الشكلي لتطور الشخصية والحدث، لتكون المرحلة الأخيرة مجرد انعكاس سلبي مأساوي للمرحلتين السابقتين في حياة البطل.
لنجد البطل (العربي) نفسه (بأطوار حياته الثلاثة) يشكل ركناً من الأركان الثلاثة للبناء الروائي العام.
2- الرواية ثلاثية الأركان
يتظافر ثالوث: المواطن العاشق المغدور/ رجل العصابة الغادر/ فضاء الغدر (الصحراء)، ليشكل البعد المأساوي للرواية الذي يقدم لنا في واجهته: مواطناً ورجل عصابة ومسرح جريمة، وفي خلفيته، شعب مستضعف مغدور، وجحافل من لصوص العصابة التي استقوت عليه بقوة الهيمنة السلطوية، ووطن مترامي الأطراف كان مسرحاً لكل أنواع الغدر والسلب اللصوصي للعصابة الحاكمة.
لا يفلح المواطن العربي في أي عمل يصعد به من قاع المذلة والفاقة رغم فوقه في الإلكترونيات والدراسة الجامعية، ليستقر في النهاية على وظيفة إدارية يعتاش بها، ويسد اللصوص كل منافذ الحياة لديه بما فيها زواجه ممن يحب، فاختطفوا كل بهج سابقة وآتية من عالمه المتصحر.. والفضاء الصحراوي الذي حاول ابطل العربي الفكاك منه في الدراسة بالعاصمة، والتفكير في الحرقة التي أفقدته أعز صحبته وخلانه، وتغيير الذهنيات بما يملك من طاقات معرفية وفنية.. كلها باءت بالفشل، فتذوي نفسه ويهجر مواهبه اللاحقة ويعطل عقله ويطفئ جذوة ذهنه الوقاد، ليستأنس بالدرويش رايكا.. الذي يغادر به إلى مفازات بلاد العجائب والجن والدروشة.. كأنما وجد فيه ملاذاً سحرياً عند فراره من كل خيبة من خيبات واقعه البائر.
ثالثاً- البطولة المشوهة:
1- التماثل البنيوي مع الأدب العالمي:
كما خاطبنا لوسيان غولدمان يوماً في الصفحة 31 من كتابه (pour une sociologie du roman)، قائلاً بأن البطل الروائي بطل مشوه طالما يقابلنا في صورة: [مجنون أومجرم(…) شخصية إشكالية خائبة في بحثها غير الأصيل عن قيم أصلية في عالم من الامتثالية والاتفاق].
يتماثل دور البطولة المشوهة لهذه الرواية مع نماذج عالمية عديدة يستوحيها القارئ كلما ركز على أوصاف البطل.. الذي منحه الروائي أوصافاً شكلية، أبرزها أنه مشوه الخلق، كونه معاقاً من يده بالولادة، ومن الناحية النفسية، محطم المعنويات تجاه نفسه، إذ يصف نفسه بمسخوط الوالدين، أي مغضوب عليه، ومحطم أخلاقياً تجاه والديه، وخاصة أبيه “العزيز”، الذي ينعته بأبشع الصفات، ويذكر في أكثر من مناسبة شجاره معه، ولعلاقتهما المتوترة منذ الصغر حين طلق والدته وغادر: يقول البطل العربي: “صغيراً لم أكن أخاف العزيز بقدر ما كنت أبغضه” الرواية ص : (ص104)كما أنه فاشل في كل فنون الرياضة التي انضم إلى فرقها وخرج تحت سخرية مدربيه وأصدقائه بسبب ‘عاقته ابلتي كسرته نفسياً: “إذا نسيت ضرب المدير فلن أنسى يوم طردني من فريق الكرة، وعيرني [الكلب الأعوج] يومها شكوته إلى الله وأنا أبكي” الرواية ص:(104)، ولعل هذا ما دفعه إلى أن يزاول مهناً هامشية من حين لآخر، كإصلاح الهواتف النقالة، وممارسة هوايات هامشية أخرى كجمع الطوابع، والتسكع ليلاً، “هواية التسكع ليلاً في أزقة القصر العتيق، مستأنساً بالقطط تفتش عن أقواتها بحماسة في المزابل، زال رهابها مني، وبإمكاني إدخال رأسي بينهم، لآخذ حصتي من رؤوس السمك (…) حتى أنا لم أعد أستعيذ بالله، من الجان، الذي قد يسكنها، أنا المسكون بالجنية السبئية”الرواية ص: (ص169) ، يذكرنا مقطع اقتيات البطل من المزابل، بسلوك بطل روائي عالمي، وهو جان باتيست غرونوي، بطل رواية العطر لباتريك زوسكيد، كما تذكرنا عبارة البطل: [أنا لم أعد أستعيذ بالله، من الجان، الذي قد يسكنها، أنا المسكون بالجنية السبئية]، بالبطل الشيطاني الذي الذي تحدث عنه لوكاتش، وكلا النموذجين الزوسكيدي أدبياً، واللوكاتشي نقدياًـ يصوران نموذجاً بطولياً منحطاً ومهمشاً، تماما كبطل رواية نبوءات رايكا السابقة، وهي صفات أصيلة في البطل الروائي الذي يجعل من أدب الهامش، أدباً مركزياً، وركناً أساساً في روائية الرواية.
لكن تشوه البطل العربي ليس نفسياً وفكرياً ووجودياً فقط، بل كان تشوهاً جسدياً (حيث ولد مشلول الذراع نتيجة خطأ القابلة في إخراجه من بطن أمه) فكان من نكاية القدر به أن ترافقه هذه العاهة لبقية حياته، وهو تشوه بالولادة، يحمل أكثر من دلالة سيميائية باعتباره دالاً متعدد المدلولات، ولعل أقرب دلالة تحملها سمة التشوه بالولادة للبطل المأساوي، هي تلك الصورة الأسطورية التي تعلق في ذهننا عن البطل المشوه [أوديب] الذي صاغه المسرحي سوفوكليس، في “الميثولوجيا الإغريقية”.
2- التماثل مع النموذج الأسطوري.
يظهر لنا بطل الرواية مشوه الخلقة بالولادة، لكن هذه المرة في ذراعه مما جعله أعسراً. تماماً مثل لايوس والد أوديب في الأسطورة الإغريقية. “اليد الشمال التي كتبت عليها الإعاقة، والقذارة بأناملها المعقوفة (…) اليد اليمنى لي فيها مآرب كثيرة رغم أني أعسر” الرواية (ص: 99-100). وقد كان هذا التشوه الخلقي للبطل الروائي العربي حاسماً مأساوياً لعديد مغامراته: حيث عمد الأب إلى كسر معنويات ابنه العربي، ليلحق تشوهه الجسماني بتشوه نفسي أعمق: “كان يراني معاقاً وكفى، لم يسعد حتى حين نلت شهادة الباكالوريا، أتذكر بوجع يوم عيرني: أنت عالة على المجتمع” (الرواية ص 60). ومن اجتماع التشوهين الخلقي والنفسي، تولدت متكاملة صورة الأوديب من داخل البطل، وبدأ يوجه سهام عصيانه لسلطان الأبوية ويهدمه، إذ نجده يناديه باسمه مجرداً إياه من يصفه الأب، بعد أن شق عصاه، ثم ها هو يسومه سوء النعوت، حين يصف علاقته العدائية بأبيه، كأنما يصف خصماً عدواً: “عبد العزيز لا يعرف تمصير الكلام، كلامه لا يُسمع، ولا يُشم، كلام جمعه من زوبيا الرواما، أعوذ ابلله، حلوف، جيفة، منتفخ، العزيز قوض كل الأشياء الجميلة التي حاول رأسي المتيبس رسمها، وتلوينها”(الرواية ص 111).
لم تكن أوديبية البطل مقتصرة فقط على تشوهه الخلقي والنفسي، أو على عدائه وخصومته لأبيه، بل أكثر من ذلك، نجد تشابهه مع البطل الملعون أوديب حتى من حيث مولده: حيث تخلى عنه والداه ليلقى في العراء: “حتى الأم التي خرجت من بطنها بمشقة حرمت علي، اجتمع بطش العزيز وقسوة زوج الأم، (…) كان عليّ أن أتحول إلى مسخ كافكاوي (…)، اكتشفت أني معاق، منقوص ومنحوس، قيل إنني حقنت بالخطأ، وقيل حمّى، وقيل مس من الشيطان (…)، تعددت الاحتمالات والعاهة مستدامة” الرواية (ص: 111- 113 -114.) هكذا تجتمع في البطل مقومات البطل الأسطوري في صفاته الشكلية، والنفسية، والطباع التي وسمت علاقته الأسرية الشاذة، إضافة إلى المقومات البطل المأساوي، الذي يجعله شيطانياً بتشوه خلقه، ومسيخاً كافكوياً كما وصف نفسه، بعد اكتشاف تشوهاته، ليكتمل المشهد، بولادته الغريبة، مطروحاً في العراء ليتلقفه والدان غير والديه، (جده المخفي وجدته الياقوت)، ليتخلياً عنه في منتصف الرحلة، تماماً كمثل مربي أوديب [الملك بوليبوس، والملكة ميروبا، ملكا كورنتوس] ليكمل البطل مسيرة جهاده البطولي وحيداً، مكابداً صراع الولادة والمجتمع والطبيعة، ليرسم لنفسه طريقاً يصنع جدله بين الخيبة والتحدي، ولعل هذا التحدي الذي جعل منه بطلاً مضاداً هو ما يمنح للبطل صورة التراجيدي والأسطوري، وإن كانت الأوديبية أسطورة خارجية موازية للنص، و مستلهمة سواء بوعي الكاتب أو بلاوعيه.
رابعاً- الصنعة الروائية في نحت الأسطورة الذاتية.
يعتمد السرد الصحراوي في توليد خياله على مصادر ذاتية أو محلية عدة، ومن أبرزها شخصية الدرويش، أو المجنون صاحب المكانة المركزية، في مجتمعه، باعتباره مورداً للمخيال السردي والأساطير الابتكارية، في هذا النص.
ذلك أن الأسطورة الابتكارية المنحوتة بصورة ذاتية في النص، وغير مرصودة في صور رمزية سابقة، هي نسج مخيالي سردي يختلف عن الأسطورة المرجعية التي لها سند في التراث المحلي أو القومي أو العالمي السابق.
ومكننا استخلاص ثلاثة أسانيد تجعل من الخطاب الرمزي والسلوكي والمقولاتي المتردد عن شخصية الدرويش رايكا أساطير مبتكرة:
–السند الأول: أن ما يصدر عنه من خطابات رمزية تحتاج إلى فك، وتفسير ثقافي خاص في بيئته النصية، وله تأثير على سيرورة منطق الأحداث، والبنية الدلالية للنص.
–السند الثاني: أن توليد الخطابات الغرائبية لشخصية الدرويش لا يكون إنتاجاً خالصاً من ذهن الكاتب، وإنما عادة ما تكون مستلهمة من خطاب درويش أو عدة دراويش حقيقيين عايشهم الكاتب في بيئته ومحيط عيشه. وأخذ عنهم مقولاتهم وخطابهم الرمزي وأعاد تسريده على لسان شخصيته الدرويشية المخيالية في النص.
–السند الثالث: الذي يدعم ابتكارية الخطاب الأسطوري لهذه الشخصية في السرد الصحراوي، هي أنه لا يمكن ان نجد كقراء نسقاً خطابياً أو سلوكياً أو بنيوياً نمطياً للدرويش يشترك فيه أكثر من كاتب, أي إن النسق الخطابي لشخصية الدرويش يتمتع ببناء أسطوري مستقل ومنقطع النظير، غير عابر للنصوص ولا للبنى السردية، حيث نجده عند كل بروز نصي بتمتع ببنية خطابية ومقولاتية، و أسلوبية ودلالية ورمزية. لا نظير لها في نص أخر سواء أكان تراثياً او معاصراً وربما حتى مستقبلاً، وهذه الاستقلالية التكوينية للشخصية وخطابها هي التي تجعل كل ما يصر عنها خطاباً ابتكارياً، وبخاصة فيما يتعلق بالخطاب الرمزي والأسطوري الشخصي.
وقد سبق وأن أشرنا في توضيح البنى الكبرى للسرد الصحراوي، بأن شخصية الدرويش، لازمة في المجتمع البدوي واقعياً، وانتقلت آليا إلى المجتمع السردي الصحراوي مخيالياً، كما أنها ليست بعيدة عن محيط البنية الروحانية للمجتمع والسرد الصحراويين معاً، سواء في حركاتها أو خطابها أو مكانتها، التي تمنحها مرونة في قول كل شيء وفعل كل شيء، ما يجعلها شخصية بؤرية في بناء حبكة هذا السرد، ومربط العديد من قيمه الفنية والفكرية.
والدراويش مجتمع موازِ في البيئة الصحراوية والعقد الاجتماعي لشعوب الصحراء، مجتمع له خصوصياته وقدسيته وحرمته، رغم ما يحاط به من سخرية وتهكم وكرنفالية في حضوره الجسدي والخطابي والقيمي.
ولا تختلف رواية نبوءات رايكا عن هذا المبدأ العام في توظيف شخصية الدرويش، في الأطر العامة للرواية، وهو ما ينبئ عنه عنوانها الذي يحمل في صريح لفظه اسم الدرويش رايكا وما الرواية بأسرها سوى مسرح لنبوءاته.
فإذا كان الدرويش هو من صنع بنبوءاته إطار النص عنواناً ومبنى، فإننا إذ نفكك حكايته، سنجده يتفتت إلى مجموعة من الجزئيات أو الأنساق الثقافية في مجتمع السردي. بما أنه شخصية محورية، تتناسل حكاياتها عبر كامل الفضاء وتلون بألوانها جميع زوايا النص وأركانه وشخصياته.
من هنا يتحول الدرويش رايكا إلى دراويش، جزئية، وخطابه إلى خطابات متعددة الاتجاهات. ومحكيات ضمنية متعددة الوظائف، فمنها الحكمة، ومنها التهكم، ومنها النقد، ومنها الروحانية، ومنها التنبؤ، زمنها التواصل الروحي من الشخصيات. إننا إذن أمام شخصية الشخصيات وأب الحكايات الضمنية لهذا النص، لذلك فإننا لو استطعنا فهم قصص رايكا ونبوءاته، فقد نتمكن عندها من تفكيك أهم عقد النص ووحداته الجزئية. والكلية معاً. لأننها ببساطة خطابات مفتاحية، أو مفاتيح يستند عليها الخطاب الروائي في فهم كائناته لعالمها السردي، فكيف لا تكون مفاتيح يستند عليها القارئ في فهم السنن المعرفي والثقافي وتفسيره.
– خامساً- اقتباسات من كلام الدرويش رايكا:
“كان رايكا ولم يزل سلطان دراويش المدينة، وإن كان يحب المبيت خارج أسوار سلطنته، فأحبابه كثر، خاصة من قبيلة الجان، يقال إنه انطرش لسنوات حين سبح وحيداً في بحيرة عين ورقة المخيفة بعد العصرية، ثم استعاد حاسة السمع وقد تدروش، كثر الحديث عن أنه متزوج بجنية مسلمة، حتى آمنت بهذا.
حين يغضب يضع قبضتي يديه في القويتين في خاصرته، ويملاً صدره بالهواء كالقمري، لكن بلا كلمة أو إشارة. وحين يكون رطباً يهرش كفه الأيسر بأظفار يمناه، ثم يخرجها سوداء، فينظر إليها بازدراء (…) ثم ينفخ في أظفاره حين يعوي النيكوتين في رأسه يفتش جيوب سرواله الجينز الحائل (…) ويحدث أن يطلب سيجارة من بعض الرفاق، لا يهم نوعها (…) وهو يوسع خطوه قد يلتفت إذا كان رائق المزاج ويقول لازمته التي أخذها من مسرحية علولة “حمق سليم”… [حلوا البيبان، مازال الصح يبان]” (ص40).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
“كلام الدراويش كما الرؤى يحتاج عارفين بالله ليفسروه، ونحن صغار كان رايكا يردد نبوءته التي منا نحسبها هينة، كانت تخيفني والكبار لا يلفون لها بالاً: [سالكة، ولو بقطع الراس]، وهو يحرك سبابته جيئة وذهاباً كأنما كان يتشمم رائحة الموت الذي سيأتي في بضع سنين”. (ص41).
“ومن أمسكه يستسلم، لا بد أن يستسلم، فلا يقاوم حتى يثير غضب رايكا، لا بأس أن يطبق عليه المادة الأولى من عقوبات [الهايش مايش] للمراهقين الصغار، فيسجن الجاني، واقفاً داخل دائرة السوء، يرسمها له بعصاه، وكلما كان نزقاً أكثر كانت الدائرة أضيق، لأعترف أن كل الذين سألتهم عن معنى الهايش مايش، عجزوا عن فهم دلالتها. المادة الثانية للأكابر، وهي التجميد، بقذفه ببصاق مكثف بمخاط لزج بالتبغ، يسددها للجبهة ويصيح، [جامودي لامودي]، يجمد الجاني بتفلة، وويل لمن يحاول الخروج من دائرة السوء التي حوطه بها رايكا، ويل لمن حاول مسح المخاط الممزوج بالتبغ الذي يصنعه من الأعشاب الجبلية، حتماً سيتلقى ضربة للظهر، بعصا، وهذا طبقاً للمادة الثالثة..”(ص 101-102)..