■ لم يكف العقل يوما عن إنتاج أسئلته المخترقة لجدران الصمت في عالم مصمت لا يمكن أن يحركه عامل سوى ذاك الذي يتعلق بالأسئلة، ولا شك، رحلة العقل قادته من أسئلة الجدوى إلى أسئلة الميكنة، أي من التأمل في الطبيعة ومحاولة الاستئناس إليها قصد تفريغها من شحنة الغموض، إلى تفكيك عوامل تكونها وعناصر كينونتها، للاستفادة من كيفية اشتغالها وتبادل المنافع داخل منظوماتها المختلفة، ومن هنا كان مفترق الطرق الذي أسهم في دفع العقل إلى إنجاز تمثلاته الأدواتية (التقنية) التي يحاكي بها الطبيعة في فيزيائها، فمن طاقة الحجر إلى طاقة البخار إلى طاقة الكهرباء إلى الطاقة النووية، وسوسيولوجيًا، انتقل من مجتمع المعرفة إلى مجتمع المعلوماتية الذي بشر به ألفين توفلر.
العمل الثقافي جوهر النهوض المعلوماتي:
إبداع العقل لا يمكن أن يساكن التوازن، أو الهدوء الذي يبتعد عن شرطية الفوضى الكامنة وراء خلق واقع يحاكي غموض الطبيعة، إن أستيطيقا الثقافة لا تنبني سوى مع مسار عقل لا يني يطرح أسئلته وعوالمه التائهة في بيداء المخيال، العقل لا يمكن أن ينتج المعنى إلا من خلال جنينية الأسئلة الفلسفية الممعنة في الطواف حول صحراء اللاممكن.
الاستحالة في حد ذاتها تمثل ذلك الصد الذي يتجاوزه العقل بجنون الأسئلة وتحديات التموقع بين توارد الأخيلة وممكنات الحدود القصوى للتفكير العقلاني، وعند تلك الحدود شهد العقل ميلاد تفكيره التقني، الذي أوصله إلى تخوم «الميكنة» المالكة لإمكانية «تصنيف ووصف واستعادة المعلومات والربط في ما بينها»، كما أشار إلى ذلك فانفار بوش في مقالته الشهيرة «كما يمكن أن نفكر»، إذن، الشأن التقني مرتبط بالتفكير، أي ذلك العامل الذي يمكن العقل من ممارسة نشاطه، بغية الوصول إلى مستوى يجعله جديرا بأن يمثل مركزا متعالقا مع الحركة المجتمعية، ومن هنا على النشاط الرقمي المعلوماتي أن يهدف أولا وأخيرا إلى ترميم الفجوة التي قد تجعل المجتمع على حافة الاهتمام العقلاني، أو تضع العقل على هامش التطلعات المجتمعية، وتلك هي العلاقة التي تجعل النهوض التقني والمعلوماتي في جوهر العمل الثقافي.
التشكل المعلوماتي والمنظومة المجتمعية:
إن تحديد المفاهيم وإبراز العلاقات البينية القائمة بين الإبداع التقني والثقافة لا تتشكل اعتباطا تبعا لنظام التراتبيات المعرفية المحددة حصرا، ولكنها تتبع التعيينات المحققة في كلا حقلي الدلالة المرتبطين بالثقافة والتقنية وما ينتج عن ذلك التعيين من تداخل وانبساط في المفاهيم التي تفتح أقواسا أخرى لفهم المجالين، وهنا يجب أن لا نغفل علاقتهما بالحضارة، لأن تلك العلاقة هي التي تكشف المضمون الجديد للثقافة والتقنية، باعتبارهما وجهين إنسانيين، أو باعتبار أحدهما جذرا أصيلا موسعا في تحديد المفهومين التابعين، وبالتالي ينحسر مفهوم الحضارة والتقنية، مفسحا المجال لمعنى الثقافة باعتبارها الفضاء القادر على نحت المفاهيم والعلاقات، وباعتبارها أيضا هامش إنتاج الدلالة في علاقتها بالوجود الإنساني وحركته في التاريخ، فما يُنجز في إطار الوجود والتاريخ يكرس علاقة الثقافي في ارتباطه بالمجتمعي، وهو ما يدفعنا إلى الاعتقاد بأن التقنية المعلوماتية تتشكل داخل الوعي بالمنظومة الاجتماعية ذات الاحتياج الواسع لتفضيض (من الفضاء) مخيالها وتجلياتها في إطار الزمن الوجودي القائم بذاته في وعي الجماعة الاجتماعية.
سوسيولوجيا النص أو الكتابة كجسر:
إن أهم عناصر هذا المجال الذي يُظهر جليا العلاقة بين تقنية المعلومات والثقافة، يتمثل في ذلك المشترك المفهومي المتمثل في موضوع «النص»، والبادئة التي أدخلت عليه فمنحته الانبثاق الجديد في مجال المعلوماتية، أقصد النص المتعالق HyperText، الذي استخدمه تيودور هولم نيلسون عام 1965، ويعني لديه «نصا يتشعب ويعطي القارئ خيارا، وخير مكان لقراءته هو شاشة تفاعلية»، والنص مفهوم ثقافي يتعلق من الناحية الأنثروبولوجية والتاريخية بسوسيولوجيا تطور الوعي والمجتمع، وبالتالي تتعلق أسئلة الإبداع التقني والثقافة بمثل هذه المفاهيم، التي تصب في حركة المجتمع، إذ الثقافة في النهاية ما هي سوى تلك الحركة الإنسانية الماثلة بين وعي الذات لمحيطها والسعي الدؤوب لفهمه وتغييره، وفي خلال هذه العملية تأسس وعي العقل بقصدية بحثية حثيثة داخل منتظم المعلوماتية، كثمرة لنظر العقل في توسلات الطبيعة، المطالبة في جوهرها بقربى الإنسان في بعديه العقلي والوجداني، وهذا ما يمكن أن نقاربه في علاقة العقل الجديدة بالمعلومات بما يسميه محمد المخزنجي: «بَشَر الكتب»، والكتب التي يعنيها هي الورقية، ويربط العلاقة بين الكتاب الورقي والإنسان بـ«السكينة»، وهو ما يشكل مرتعا جماليا لإمكانيات نشأة «الرمز» بتعدد تأويلاته، في علاقة الكائن البشري بذاته الحاضرة/الثابتة والشاهدة لتحولات اللحظة، فأفلاطون يرى في فيدروس على لسان سقراط بأن «الكتابة غير إنسانية»، كونها سوف تقتل الذاكرة وتحتاج إلى ما هو خارج الذات (النص)، ولكن بقدر ما كان النص مزعجا للذاكرة فلقد أيقظ في العقل الإحساس بجمالية القرب من الطبيعة باعتبارها كنْهًا يستحيل التغاضي عن توثيقه، وبالتالي لا يصبح الجديد المعلوماتي معقولا، سوى في الحالة التي لا يستثني إنسانية العلاقة المتوثبة بين الذات والكائنات الموضوعية التي تعتادها كفعل وجودي/ جمالي.
الوضع العولمي وبنية الروح الخالدة:
إن التقاطعات الموضوعية المتمثلة في التناقضات القائمة بين سلبيات وإيجابيات مجال المعلوماتية، وخصوصا تجليها الأنترناتي يمثل الدعامة الأساسية في فهم مجتمع الإعلام، وعلاقته بالمعرفة وصيرورة العالم قرية صغيرة، لكنه في الوقت ذاته يكشف عن وجه العالم ذي التوجه الوحيد الصائر إلى إمبريالية الهيمنة والقصد المضمر في اختراق الخصوصيات وتدميرها لصالح خصوصية رأسمالية وحيدة، تسعى لتكريس الوضع ما بعد الحداثي، وعولمة التوجهات المجتمعية المختلفة، المبنية على التنوع والاختلاف وتوجيهها لخدمة الواحدية المتربعة عرش المال والإعلام المهيمن، ما يؤسس لثقافة مجتمع الإعلام والمعرفة بمفاهيمه وقصدياته الغربية، فكيف والحال هذه تتحقق إمكانية إنتاج مفاهيم العلاقات بين الثقافة المحلية والنشاط التقني المعلوماتي، بحيث تصبح الأقليات الثقافية بمنأى عن نظام الهيمنة المعلوماتي (الرقمي) العالمي؟
لا يمكن الإجابة عن هذا السؤال إلا في إطار متعدد ومختلف، قد يفهم في إطار مفردات التحليل النفسي بتعبير أحمد محمد صالح، حيث يقول: «إن أجهزة الكمبيوتر، والفضاء الإلكتروني الواسع أصبحت نمطا من الفضاء الانتقالي يمتد فيه عالم الفرد ونفسيته، حيث تلتقي فيه نفس بأخرى منفصلة عنها»، والملاحظ إنه في الوقت الذي تثبت فيه الخصوصية والحاجة إلى اللقاء والتماس الفيزيقي، تدمر هذه الوسائط تعالقات الذات مع أنماط الثقافة المحلية عن طريق إمبريالية الوضع الراهن المُؤَمْرَكْ والرافض للآخرية المختلفة، وتعيد الوجود إلى غموض المصادر والمنابع، وهو ما يستبعده سمو الدين باعتبار سماوية الوحي الذي جاء لينبه الإنسان إلى تلاقي وتحايث المسارات ذات النبع الإنساني الواحد، وهو أيضا ما تمثلته الفلسفات الوضعية باعتبارها ناجزة تحت السقف الإبراهيمي الكوني.