لقد أدى ظهور المطبعة وتطوّرها -بوصفها منجزاً علمياً غربياً- في الفضاء العربي إلى إحداث شرخ في العلاقة بين القصيدة العربية بشكلها الكلاسيكي وبين متلقيها، فقد نقلت المطبعة أشكالاً جديدة من المعرفة كان أبرزها انتشار الصحف التي كانت محصورةً في نطاق الدولة وأجهزتها، فأصبح جمهورها أوسع نطاقاً وانتشاراً بفضل تطوّر الطباعة في العالم العربي، ترافق ذلك مع انتشار واسع في التعليم والمدارس بين فئات لم تكن الدولة القديمة معنيةً بتعليمها مثل البدو والفلاحين. مما جعلَ بإمكان السّلطة مخاطبة النّاس والتأثير فيهم من خلال هذه الوسيلة الجديدة، أي أن الصحف أخذت في تأدية الوظيفة الإعلامية التي كان يؤدّيها الشّعر العربي عبر أكثر من ألف عام.
وجاءت المكتشفات العلمية والإعلامية الأخرى (الإذاعة والسينما والتلفاز) لتعزّزَ الشرخَ بين السلطة والقصيدة العربية، إذ توسّعت الفئة التي تستطيع الدولة مخاطبتها، فأصبح بإمكانها مخاطبة العامة والأميين. فلم تعد السلطة -تدريجياً- في حاجة ماسة للشعر لتوثّق إنجازاتها وتسوّق خطابها، وأصبحت تخاطب النّاس مباشرة دون حاجة إلى الوسيط القديم/ الشاعر. فبعد أن كان الشعر العربي هو الوسيلة الإعلامية للسلطة التي تؤثّر من خلالها في الرأي العام، وبعدَ أن كانت السلطة والشّاعر يروّجان بضاعة بعضهما بعضا في ذهن المتلقين المشتركين، حدثَ فراق بين متلقي خطاب السّلطة ومتلقي الشّعر؛ فالأوّل -وهو يمثل جمهوراً عريضاً من النّاس- يتلقى عبر الوسائل الجديدة ويتفاعل معها بعيداً عن الشّعر، أمّا الثاني -وهو يمثّل أقلية مثقفة- فهو متلقٍ نُخبوي يبحث عن الجمال والأدب، الأمر الذي أدى إلى انحصار جمهور الشّعر وتراجعه.
ولتصوّر الدور الإعلامي الذي كان يؤديه الشّعر علينا أن نتذكّر -على سبيل المثال- الصورة المشرقة التي رسمها هذا الجهاز الإعلامي لسيف الدّولة الحمداني في مقابل الصورة القاتمة لكافور الإخشيدي، فنحن ما زلنا نكره الأخير ونحتقره، ولا زلنا نردد -كلما جاء ذكره- بيتَ المتنبّي:
لا تشترِ العبدَ إلّا والعصا معه إنَّ العبيدَ لأنجاسٌ مناكيدُ
وكل ذنب كافور أنّه اكتشف الطبيعة الانتهازية للمتنبّي وأخطأ في توظيف الجهاز الإعلامي، فنالَ عقابه. أمّا إذا ما بحثنا عن الحقيقة وقارنّا بين الصورة التاريخية وبين الصورة الأدبية الراسخة في أذهاننا عن هذا الرّجل، فإنّنا سنجد شخصاً آخرَ مختلفاً، سنجد ملكاً ذكياً وقائداً شجاعاً يحكم بلداً مستقراً في مقابل زعيم قبلي شجاع مثل سيف الدولة يحكم دولة غير مستقرة، كما أنّ كُتب التاريخ تشير إلى ثقافة كافور وعلمه وحكمته. إضافة إلى أنَّه انتصر على سيف الدولة وطرده من دمشق.
مما يعطينا فكرة عن قدرة الشعر العربي القديم على تغيير الرأي العام وتحشيده، وهو الأمر الذي لم يكن يشترك فيه سوى الشعر والفقه بوصفهما ركنا الجهاز الإعلامي للدولة القديمة. وإذا كانت الدولة الحديثة لا تزال تعتمد على الفقه وقد حجزت مكاناً متقدماً للفقهاء في جهاز الإعلام الحديث فإنّها أهملت الشعرَ واقتصر تمثيله في جوانب محدودة الهدف منها التسويق للدور الذي تلعبه الدولة في خدمة الثقافة ورعايتها؛ أي أنّ الأدب أصبح عبئاً على الدولة الحديثة ولم يعد يؤدِ الدورَ القديم.
مع الزّمن تراكمَ الشعور بالتهميش في الوعي الجمعي عند الشعراء، الأمر الذي بدأ يدفع الشعراء في القرن العشرين إلى خلع الدور القديم والتمرّد على أشكاله والبحث عن دور جديد للشعر العربي. وبما أنَّ القصيدة العمودية هي قصيدة سلطة فإنّ بناءها بناء التزام/ خضوع (للقواعد العروضية)، لذلك فإن الشّاعر العربي بعدَ أن كبرَ الشرخ بينه وبين السلطة لجأ إلى كسر هذا الالتزام/ الخضوع عبر كسر العروض التقليدية والتمرّد عليها من خلال خلق أشكال جديدة للكتابة (قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر).
وهذا النمط الجديد في الكتابة يُعد تمرداً على السلطة بكل أشكالها (سلطة التقاليد الأدبية الموروثة/ سلطة المجتمع/ سلطة الدولة)، ولتوضيح هذه الفكرة سنتناول ثلاث سمات رئيسة وسمتْ الشعر العربي الحديث في القرن العشرين: الأولى تكمن في الموقف العدائي من المركز/ المدينة الذي هو رمز السلطة، يقابل ذلك السمة الثانية وهي حنين كثير من قصائد التفعيلة إلى الصحراء والأماكن الهامشية، ولا تنفصل السمة الثالثة عن السابقتين: وهي تتعلّق بتوظيف الأساطير الدينية للثقافات القديمة في هذا الشعر.
تتعاضد هذه السمات لتقدم خطاباً شاملاً تقوم خطوطه العامة على مواجهة السلطة والثأر منها: فالشّعر الحديث ليس شعر مديح بل هو شعر ثورة ومواجهة وهجاء ضد أي سلطة بالمطلق، ولغاية اليوم إذا ما أراد الشّاعر الحديث أن ينجح في المديح أو التملّق فإنّه يخلع عنه ثوب التفعيلة أو النثر ويلجأ إلى نظم قصيدة عمودية. كما أنَّ هجاءَ المدن والحنين إلى الصحراء الوثنية وإحياء الأساطير القديمة يصب في رغبة الشّاعر الحديث بأن يُعيد بعث شعره من نقطة البداية، فكما كان الشعر الجاهلي الذي يحتفي بالصحراء ويكره الخضوع للمراكز يتغنّى بآلهته وأساطيره، فإنّ الشعر الحديث يحتفي بالصحراء ويكره المدينة ويوظّف الآلهة والأساطير في محاولته فهمَ الحياة الجديدة في القرن العشرين.
هنا تواجهنا ثلاثة اعتراضات: الأوّل يتعلّق بالشّاعر الحديث الذي وضع نفسه تحت رهن السلطة -هناك الكثير من الأمثلة حقيقةً، والثاني يتعلّق بشعر المديح العمودي الكثير الذي كُتب في القرن العشرين واحتفي به في المناسبات الرسمية وعبر وسائل إعلام السّلطة. أمّا الاعتراض الثالث فيتعلّق بوجود قصائد حديثة موضوعها المديح السّياسي. الاعتراض الأوّل له علاقة بشخوص الشعراء ولا علاقة له بإنتاجهم الشّعري؛ فلو قابلنا بين منتجهم الشعري وبين منتجهم من آراء ومقالات، سنجد الشعر يقف ضد السّلطة بينما الآراء والمقالات تصب في خدمتها، وهو تناقض رافق الكثير من مثقفي العالم.
أمّا الاعتراض الثاني فتجيب عنه مستجدات القرن الحادي والعشرين، فإننا إذ نقف اليوم مستذكرين ما قيل من قصائد مديح سياسي في القرن العشرين بالكاد نستطيع تذكر قصيدتين أو ثلاثة. وفيما يخص الاعتراض الثالث فإن قصائد المديح المكتوبة بشعر التفعيلة أو النثر لا تشكّل ملمحاً رئيساً من ملامح الشعر العربي الحديث مثلما هي الحال في الشعر القديم؛ فنحن لا نستطيع أن نحذف قصائد المديح من العصر العبّاسي، لكننا نستطيع أن نحذف كل قصائد المديح المكتوبة بشعر التفعيلة دون أن يختل ميزان الشعر الحديث.
هذا فيما يخص القرن العشرين، فإلى أين تتجه القصيدة مطلع القرن الجديد وفي ظل التطورات التكنولوجية والإلكترونية الهائلة التي رافقته، ومع ظهور وسائل التواصل الاجتماعي؟
يتجه الحديث عن مستقبل الشِّعر في القرن الجديد اتجاهاتٍ تتوافق مع التطوّر الهائل الذي رافقه، خاصةً في الجانب التواصلي والتفاعلي فيدور الحديث حول القصيدة الإلكترونية / أو التفاعلية / أو الرقمية، بيدَ أنَّ حديثنا سينحى منحى آخر -قد يبدو تشاؤمياً- وسنقوم أولاً بإعادة تصوّر ما حدث من تحوّل في الذهنية المجتمعية في هذا القرن مقارنة بالقرن السّابق:
لقد كانت وسائل الإعلام محصورة بيد الدولة، فهي التي تسمح بمرور المادة المكتوبة أو المسموعة أو المرئية إلى المتلقي، فلا كتاب يصدر ولا قصيدة تُنشر ولا رأي يُقال دون موافقة السّلطة، وما يُنشر بخلاف ذلك يكون انطلاقاً من ديمقراطية الدولة وتقبلها للرأي الآخر (أي يصب في مصلحتها) أو ضمن نطاق العمل الحزبي الضّيق الذي يمثّل أيضاً سلطة أخرى تعمل على تقويض السّلطة القائمة، أي أنه صراع سلطة ضد أخرى. أمّا بعد ظهور الانترنت والستالايت واكتشاف الأجهزة الذكية وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي ( الفيسبوك وتوتير واليوتيوب والتيك توك…إلخ) فقد كُسر الاحتكار المفروض على الإعلام، وأصبحت الوظيفة الإعلامية مشاعاً بين الجميع، وصار باستطاعة كل إنسان أن يكون إعلامياً؛ فهو يكتب المادة أو يصوّرها وهو الذي ينتجها ويقدمها للنّاس، كما أنه لا يحتاج لموافقة رئيس التحرير كي ينشر رأيه، وصار ينشر أفكاره وآراءه مباشرة دون انتظار أحد. وأصبح على السلطة أن تقدمَ مادةً مقنعةً كي لا تتعرّض للسخرية والنقد.
وإذا كانت الوظيفة الإعلامية انتقلت من يد الشّاعر إلى يد السلطة التي أصبحت تؤديها بشكل مباشر في القرن العشرين، فإنّها انتقلت الآن من يد السلطة إلى يد المتلقي. نعم لقد أصبحَ المتلقي هو – بعدما كان في الأساس هدفاً- المُنتج والمُسيّر لهذه الوظيفة. وهذا انعكس أيضاً على جميع جوانب الحياة، بما فيها الحكم التقييمي على القصيدة، فالشّاعر ينشر قصيدته عبر وسائل التواصل الاجتماعي ويتواصل مع المتلقي مباشرة، ساعياً إلى إرضاء ذوقه دون الحاجة إلى سلطة النّاقد كي تحظى قصيدته بالشرعية. بل إنّ الناقد أصبح على قدم المساواة مع أي متلقٍ آخر وعليه أن يكون مُقنعاً كي يفرض رأيه ويميّزه عن الآخرين.
هذا السعي إلى إرضاء ذوق المتلقي أصبح يلعب دوراً رئيساً في تشكيل اتجاهات كتابة الشعر الجديد الذي يُكتب في القرن الحادي والعشرين؛ فعلى سبيل المثال فرضت طبيعة المتلقين الجدد في وسائل التواصل الاجتماعي على الشعراء أن يكتبوا بلغة سلسة وسهلة مراعين ضرورة الابتعاد عن الغموض. فلو فرضنا أنّ شاعراً شاباً كتبَ قصيدةً غامضةً قريبةً من طريقة أدونيس في الكتابة -على صعيدي الأسلوب والمستوى الفنّي- فإنّه سيتعرّض للسخرية لا محالة. وسنجد الكثير من الناشطين يسخرون منه بوصفه موضوعاً للتندّر.
هذه السلطة الجديدة للمتلقي، أفسحت المجال للعودة/ الردّة إلى الشّعر العمودي، فالطبيعة الموسيقية والخطابية للقصيدة العمودية تستميل المتلقي غير النُخبوي وهي تناسب مواقع التّواصل الاجتماعي وطبيعة اليوتيوب…إلخ. وبما أنّ الذائقة العربية بعد الربيع العربي تُعرِض عن التملّق والمديح السياسي، فكثيراً ما تتعرّض قصائد المديح للسخرية والاستهزاء وتوصف بـأوصاف قبيحة مثل “التطبيل” و”هز الذنب”، فإنّ مديح الرؤساء والملوك -في القصائد العمودية الجديدة- بوصفه موضوعاً شعرياً تراجعَ إلى الخلف مقارنة بمواضيع أخرى لا تزال تحتفظ بالصدارة مثل الرثاء والغزل والشعر السياسي المعارض.
ولكن حسم العودة إلى الشعر العمودي في القرن الحادي والعشرين يحتاج إلى التأني وعدم التّسرع في الحكم، لأنّنا لا نزال نتخبّط في خضم التغيّرات السريعة والكثير التي أحدثها -ويحدثها وسيحدثها- التطوّر التكنولوجي ولا نستطيع أن نتنبأ بالمآلات التي سيؤول إليها الشعر العربي في القرن الجديد. بيدَ أنَّنا نستطيع أن نردَّ على الاعتراض الذي قد نواجه به ومفاده أن القصيدة العمودية التي تكتب في ظل سلطة المتلقي تُعد امتداداً للشعر العمودي الذي كُتب في القرن العشرين. وهو اعتراض نردُّ عليه بأنّ الشعر العمودي الذي كُتبَ في القرن الماضي هو امتداد للشعر العربي القديم ويُعبّر عن رفض فئة من الشّعراء للأشكال الجديدة من الكتابة وهي تخضع لشروط الشعر القديم وتنهل من ألفاظه الجزلة، أمّا القصيدة العمودية فهي تعبّر عن الاستجابة لسلطة المتلقي الجديد وعن الخضوع للشروط التي تمليها طبيعة هذا المتلقي القادم من خارج دائرة السلطة السياسية أو النقدية، وهو ما لم تعرفه القصيدة القديمة.
الآراء الواردة في المقالات، لا تعبر بالضرورة عن موقف “شعراء بلا حدود”