إيفا اللّوز وإدغار كاباناس
التربية على السعادة:
أتيحت الفرصة لسليجمان (Seligman)ولايارد(Layard)1في سنة2008، للتحاور بينهما حول تطبيق علم النفس الإيجابي في التربية بالمحادثة،وهو الأمر الذي بدا حاسماً بالنسبة لسليجمان، وقد تحدث بتنميقه المعتاد عن هذا الأمر فيما بعد باعتباره (تجربة للتغيير):
كنت أتجول برفقة ريتشارد لايارد في حي بائس في جلاسجو بين جلستين افتتاحيتين من تنظيم مركز اسكتلندا للثقة والرفاه، وهي مؤسسة ممولة جزئياً من طرف السلطات العمومية، وتتمثل مهمتها في مكافحة العجز الذي يقال إنه متوطِّن في النظام التربوي وفي عالم الأعمال بإسكتلندا. لقد كنا المحاضرَين النجمَين.
«قال ريتشارد بلهجة إيتون الغنائية: مارتن، لقد طالعت كتابك حول التربية الإيجابية وأريد أن أدخله في مدارس المملكة المتحدة.
– أجبته:شكراً ريتشارد. سعيدٌ بأن يتم الاعتراف بعملنا من قبل الجهات العليا في حزب العمال، سأتمكن قريباً، على ما أظن، من إجراء دراسة تجريبية في مدرسةٍ بليفربول.
– ردّ ريتشارد وهو يجذبني قليلاً نحو الأسفل: أنت لا تفهم الأمر بشكل جيد يا مارتن. أنت كغالبية الأكاديميين لديك تصور خرافي عن العلاقة بين السياسات العامة والوقائع. ربما تعتقد أن البرلمان قادر على تبني برنامج ما، عندما تتراكم الأدلة العملية لتبلغ الحد الذي يسمح باعتبارها غير قابلة للدحض أو للمعارضة من قبل أحدهم. إن مثل هذا الأمر لم أره طيلة حياتي السياسية؛ فالعلم يشق طريقه نحو السياسة طالما أنه مدعوم بأدلة كافية وبوجود الإرادة السياسية. وأنا أخبرك بأن الأدلة على وجاهة التربية الإيجابية «مقبولة بما يكفي» -كما نصفها نحن أهل الاقتصاد- والإرادة السياسية موجودة اليوم لتحقيق ذلك. لهذا السبب سأدخل التربية الإيجابية في مدارس المملكة المتحدة2.
إن إدخال علم النفس الإيجابي في البرامج الدراسية على الرغم من أن الأدلة على فعاليته وجدواه بالكاد تعتبر «مقبولة» لا يبدو أمراً على قدر كبير من المسؤولية. لكن ما يلاحظ على وجه الدقة، هو أن هذه الصفقة لم تحمل أي جديد على الإطلاق. لقد سارع دعاة علم النفس الإيجابي واقتصاديو السعادة، بالفعل، منذ تأسيس تخصصاتهم المعنية، إلى التدخل في البرامج الجامعية، مدّعين بشكل أساسي أن السعادة تُـمكِّن، أفضل من أي عامل آخر، من إبراز جودة التعليم والتنبؤ بها، وإنجازات الطلبة، وتفوق التلاميذ، علاوة على النجاحات التي سيحققونها كراشدين.
بيد أن هذه المحادثة تكشف لنا نقطتين مهمتين للغاية، تسمح لنا أولا وقبل كل شيء، بأن نفهم أن هؤلاء الأكاديميين يضغطون على السياسات العامة المرتبطة بالتربية. إن وجودهم ونفوذهم في هذا المجال لا يمكن بطبيعة الحال، إلا أن يكون لهما تأثير على القيم والنماذج المغروسة في الأجيال الجديدة وكذلك في المجتمع. وأخيراً، تخبرنا هذه المحادثة بشكل مطول عن السرعة التي ترسّخت بها التربية الإيجابية ومفاهيمها في الفضاء التربوي.يبدو سليجمان نفسه مندهشاً اليوم، كما يتضح في قوله، ربما المشوب بقليل من السخرية، مؤخراً: «لا يسعنا إلا أن نتعجب من التطور السريع والانتشار الواسع النطاق للتربية الإيجابية الموجودة الآن في مختلف أنحاء العالم3».
وجاء التلميذ السعيد:
من المؤكد أن التربية الإيجابية قد فرضت نفسها بشكل تدريجي بين عامي 2008 و2017– على الأقل في الدول الأنجلوسكسونية، كإحدى أولويات التربية، كما تم دمج البرامج القائمة على فكرة السعادة في دروس المؤسسات الابتدائية والإعدادية أكثر من مؤسسات التعليم الثانوي والجامعي، خصوصاً في الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة وكندا، حيث يتم تمويلها بسخاء. والواقع أنها لا يمكن إلا أن تحظى بترحيب كبير من لدن ثقافة نيوليبرالية تزدري بشكل متزايد مفاهيم التفكير النقدي، والقدرة على عقلنة المعرفة، في مقابل إعطاء الأولوية للمهارات الاجتماعية، والإدارية، وانجاز المشاريع4. وقد أكد وزير التعليم في كولومبيا البريطانية5 عام 2008 أن الطالب المثالي هو الذي يبدو قادراً على إظهار «مهارات إدارية وتنظيمية، وقادراً على أخذ المبادرات، ومسؤولاً، ومرناً، وقادراً على التكيّف، ومدركاً لقَدْرِه، وواثقاً في نفسه، ومقتنعاً بأن التصرفات والاختيارات تؤثر إيجاباً على الحياة اليومية». وتابع قائلاً: بأن هذا الطالب المثالي، «يبلغ كامل طاقته من خلال تحقيق الأهداف التي يضعها لنفسه ويجد متعة في تحقيقها، ويعرف كيف يسوّق مواهبه ومهاراته». ونتيجة لذلك تضاعفت جمعيات خاصة وعامة، وخلايا تفكير، ووكالات استشارية، ومجالس وشبكات دولية، مستهدفة جميعها «تعزيز التعليم الإيجابي بين مدرّسي التلاميذ، وأولياء الأمور، وكذا في التعليم العالي، وفي الجمعيات الخيرية، والمقاولات والوزارات».إنهم جميعاً يرغبون في «إقناع الذين يرسمون السياسات العامة حتى يغيروا تصوراتهم ورؤاهم للعالم، ويعتمدوا مبادئ للتعليم موجهة نحو فكرة الرفاه6».لنذكر فقط، من بين المنظمات التي تدعو إلى تحقيق هذه الأهداف، الشبكة الدولية للتعليم الإيجابي، التي تأسست سنة 2014 والتي دُعِّمَت بسرعة من قبل العديد من المؤسسات الخاصة. وبالفعل لم يمض كثير من الوقت حتى تحوّلت آلاف المدارس والثانويات والجامعات في أكثر من سبعة عشر بلداً – ربما في ذلك الصين، والإمارات العربية المتحدة والهند- إلى اعتماد التربيةالايجابية7.
كل هذه التنظيمات، العامة أو الخاصة التي أنشئت من أجل تعزيز ونشر التربية الإيجابية، لا تشتغل منذ عشر سنوات ليس مع دعاة علم النفس الإيجابي وحسب، وإنما أيضاً مع خبراء اقتصاد السعادة، وكلهم حريصون بقدر ما وسعهم الأمر، لدعم وشرعنة هذه المبادرات المختلفة التي تمثل صدى لأعمالهم. فـقد امتدحها لايارد، على سبيل المثال، مؤكداً أنها كانت ضرورية للغاية، وعكست مناهجَ التعليم ووجهتها نحو الأفضل. إن تربية موجهة نحو فكرة السعادة لن تكشف، من حيث المبدأ، أنها ذات جودة وحسب، بل ستعرض أيضاً فوائد اقتصادية قوية من خلال المساهمة بشكل خاص في الحد من الأمراض العقلية لدى الطفل (تكلّف الأمراض العقلية،في الواقع، لدى البالغين في الدول المتقدمة نسبة 5 بالمائة من الدخل المحلي الإجمالي)8.بالنسبة لسليجمان وزملائه يزعمون أيضاً أن السعادة ينبغي أن تُدرّس انطلاقاً من المدرسة الابتدائية ليس «كمضاد للاكتئاب» وحسب، ولكن أيضاً «كوسيلة لزيادة فرص الرضا عن الوجود الذي نخوضه، ووسيلة للتعلّم بشكل أفضل ولتطوير تفكيرٍ أكثر إبداعاً9». ومع ذلك لا يظهر أن أياً من الأنصار الأكثر تحمّساً للتربية الايجابية يرى أن التصدي للقضايا التربوية التي لا تمت بصلة لعلم النفس من الأولويات.فالاستبعاد الاجتماعي والثقافي، وأوجه التفاوت الآخذة في الاتساع، بما في ذلك الوصول إلى الجامعة، وتقلّص التمويل العام، وتزايد الهشاشة، وتنامي المنافسة، وحتى لا نستدعي سوى بعض الأبعاد البنيوية الحاسمة في هذه القضايا التربوية، التي لا يبدو أنها تؤخذ بعين الاعتبار. ومما لا شك فيه أن معالجة هذه العلل من جذورها، في ضوء المنطق الذي يدافع عنه لايارد، ستكون باهظة الثمن. وبالتأكيد لن يكون لدينا اقتصاد جيد في هذه الحالة.
أيديولوجيا راسخة:
لقد وُضعت برامج متنوعة تقوم على فكرة السعادة برعاية التربية الإيجابية. منها برنامج الجوانب الاجتماعية والعاطفية للتعلّم (SEAL): تم تمويله بمبلغ 41،3 مليون جنيه إسترليني، وتم تقديمه لـ 90 بالمائة من المدارس البريطانية و70 بالمائة من المؤسسات الثانوية البريطانية، ويلقن هذا البرنامج التلاميذ كيف «يديرون عواطفهم»، وكيف «يكونون متفائلين بشأن قدراتهم، خصوصاً قدراتهم على التعلّم» وكيف «يحددون أهدافاً بعيدة المدى»، وكيف «ينظرون بإيجابية إلى أنفسهم»، والعديد من التقنيات التي يبدو أنه من الضروري إقحامها في كل برامج التعليم10. أما برنامج جامعة بنسلفانيا للمرونة النفسية (PRP)؛ فيعلم تلاميذ المدارس الابتدائية والثانوية في الولايات المتحدة الأمريكية كيفية «رصد الأفكار غير اللائقة»، وكيفية «تجاوز القناعات السلبية، أخذاً في الحسبان تأويلات أخرى ممكنة» وكيفية «مواجهة الوضعيات والمشاعر الصعبة».وهنا مرة أخرى، يُصِرّ مروّجو التعليم الإيجابي على أن مثل هذه البرامج لا ينبغي أن تقتصر على المؤسسات التربوية، بل أنْ تمتد حتى إلى الفضاء المنزلي11.ونجد في، السياق نفسه، أن برنامج العاطفة الإيجابية،والمشاركة الإيجابية، والعلاقات الإيجابية، والدلالة والإنجاز الإيجابيين (PERMA)، والتي يتم تنفيذها كذلك من طرف كل من الجيش والمدارس الأمريكيين في كل أنحاء البلد، تتميز عن البرامج التي تسعى إلى زيادة رفاهية الفرد، في محاولة للحد من العوامل السلبية أو القضاء عليها. إن هذا البرنامج (PERMA) يعلم كيفية صيانة وتطوير المشاعر الإيجابية، والسلوكيات الإيجابية، والإدراكات الإيجابية12. وتُعلِّم برامج أخرى، مثل برنامج القمة، ودراسات العزيمة والمثابرة، طلاب الجامعات كيفية تطوير وتجاوز الاختلافات في الموهبة بين الأفراد، وكيفية التحكم في المشاعر، وكيفية تجويد قدرات التحفيز الذاتي، وكيفية وضع أهداف طموحة وتحقيقها، من خلال المثابرة، وكيفية تجنب أي إحباط في النهاية13. كما يعالج أيضاً، برنامج الـ”موددجي. وأي. إم.” (MoodGYM)14 المفترض فيه أن يحسّن القدرة على التحمّل، والاكتئاب لدى المراهقين15. أما برنامج التنفس فهو يلقن الـمدرسين فوائد التأمل، والاسترخاء والتنظيم العاطفي16.
وإذا كان علماء السعادة يمتدحون تدخل مثل هذه البرامج في الفضاء المدرسي، فإن عدداً من المختصين في علوم التربية، وبعيداً عن التحمس لهذه البرامج، انتقدوها بشدة، وتحدثوا في أفضل الحالات عن عدم فعاليتها، وقبل كل شيء عن آثارها السلبية. وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى البحوث التي أجرتها كل من كاثرين إكليستون (Kathryn Ecclestone ) ودينيس هايز (Dennis Hayes) حول “المنعطف العلاجي للتعليم”، لاسيما وأن هؤلاء المؤلفين قد أولوا اهتماماً خاصاً لعواقب هذا التحول17. لم يكتف الباحثان بتوجيه أصبع الاتهام إلى المسلمات الفردية والنيوليبرالية للتعليم الإيجابي وحسب، بل أبرزت إكليستون وهايز أيضاً كيف تسوّق هذه البرامج التعليمية نظريةً شديدة التزييف لـ«التمكين».إنهما يُظهران كيف تشجع هذه البلاغة بشكل ضمني، وبطريقة خطيرة جداً، على تشكيل «ذاتٍ متضائلة»، وضعيفة وهشة. وفي هذه الحالة سيكون لدينا منهج يستصغر التلاميذ، ويفضل اهتماماً عاطفياً بحتاً بالذات على حساب النظر الفكري، حيث يصير “المستفيدون منه”مدمنين بشكل كلي على الخبرة العلاجية والتقييم النفسي. هذه التقنيات كما تؤكد إكليستون وهايز، ستجعل التلاميذ مهووسين، بكل ما للكلمة من معنى، بحياتهم العاطفية، وهذا ما سيدمر استقلالهم الذاتي، ويسقط العديد منهم في حلقة مفرغة من القلق والإدمان العلاجي:
إن معظم الأطفال والمراهقين لا يعانون من أمراض خطيرة، إلا أن مثل هذه البرامج ستلحق بهم ضرراً كبيراً. وليس من قبيل المصادفة أن يبّلغ العديد ممن تابعوا مثل هذه البرامج، عن وقوعهم في قبضة القلق، وبنسب لم يسبق لها مثيل […] وهكذا تغرس التربية العلاجية، الضعف والقلق؛ ثم يأتي الأطفال للتعبير عن ذلك، وقد أصبحوا أكثر خضوعاً لسيطرة هذه البرامج العلاجية18.
وعلاوة على ذلك، فإن هذه البرامج غير فعالة كما تزعم الأدبيات التي أنتجها علماء السعادة. نذكر بداية أن الوعود والآمال المرتبطة بمثل هذه البرامج لا تحمل أشياء فريدة للغاية. وطوال النصف الثاني من القرن العشرين تم إطلاق العديد من البرامج التعليمية لتحقيق آمال مماثلة، فكانت مخيبة للآمال في أغلب الأحيان، وبقسوة أحياناً. ومن الأمثلة على هذه المحاولات المعروفة والفاشلة جميعها، حركة تقدير الذات خلال سنوات الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين. فقد كان من المفترض أن ترُدَّ هذه الحركة على هذا الانهيار العام والواضح لفكرة تقدير الذات؛ فتم الادعاء بأن “لعديد من مشاكل رأس المال التي تعاني […] منها مجتمعاتنا -حتى لا نقول معظم المشاكل- ترجع أسبابها الجذرية إلى انعدام تقدير الذات التي يعاني منها أغلب أعضائها19. وقد أكد بوجه خاص ناثانيال براندن (Nathaniel Branden)، أحد شخصيات هذه الحركة، أنه لم تكن هناك “مشكلة نفسية واحدة بدءاً بالقلق والاكتئاب والخوف من العلاقات الحميمية ومن النجاح، ومروراً بالعنف المنزلي وسوء معاملة الأطفال، لا تُعزى إلى نقص في تقدير الذات”. ولم يكن هناك أي شك في أن “تقدير الذات كان له تأثير بالغ على كل جانب من جوانب الوجود20“.وفي عام 1986 كان من المقرر أن يقوم حاكم ولاية كاليفورنيا بإنشاء فريق العمل المعني بتقدير الذات والمسؤولية الفردية والاجتماعية، مستفيداً من ميزانية سنوية تبلغ 245.000 دولار أمريكي، وقد كان من مهام هذا «الفريق المكون من أجل خدمة فكرة تقدير الذات والمسؤولية الفردية والاجتماعية”، والذي كان مقرراً أن يشتغل لسنوات عدة، للإسهام في حلّ مشاكل من قبيل: الجريمة، وحمل المراهقات، وإدمان المخدرات، والفشل المدرسي. وعلى الرغم من أن كل المحاولات من هذا القبيل، ظهرت غير فعّالة بشكل منهجي، فقد كانت الجمعية الوطنية لتقدير الذات (NASE) على وشك إطلاق برنامجٍ جديد خلال سنوات التسعينيات، باللجوء هذه المرة أيضاً إلى باحثين وكتاب شعبيين متخصصين في المساعدة الذاتية، مثل جاك كانفيلد (Jack Canfield) وأنتوني روبينز (Anthony Robbins). وبما أن هذا البرنامج قد أثار العديد من المشكلات النظرية والمنهجية، فإنه لم يثبت أنه كان أكثر إقناعاً من بقية البرامج التي سادت خلال مرحلة الثمانينيات.
دُرِست حركة تقدير الذات بتفصيلٍ من قبل روي بوميستر (Roy Baumeister) وزملائه، فضلاً عن الجوانب والآثار النظرية والمنهجية لهذا المفهوم (تقدير الذات)21. وقد خلص هؤلاء المؤلفون “إلى أنهم لم يجدوا أدنى دليل يوحي بأن تعزيز تقدير الذات (سواء من خلال التدخل العلاجي أو البرامج المدرسية) كان ذا فوائد تذكر”. وقد اختتموا هذه الملاحظة باقتراح ذكي في قولهم: “ربما من الأفضل بالنسبة للعلماء النفسيين عدم الوثوق في أنفسهم كثيراً، وأن يعتمدوا بتواضع على مواد تجريبية أكثر اكتمالاً وصلابة، قبل أن يدّعوا أنهم يؤثرون على السياسة والرأي العام الأمريكيين22“. لقد أظهرت حركة تقدير الذات بوضوح، في ذلك الوقت، وهي معززة بالأهداف والفرضيات التي سترتبط لاحقاً بعلم النفس الإيجابي وبتدخلاته في مجال التعليم، كيف يمكن لبنيات ثقافية وأيديولوجية أن تدعم وتحفز بعض الأبحاث والتدخلات الاجتماعية ذات الطبيعة النفسية في الأساس، حتى ولو لم يكن هناك ما يثبت صحتها. والحقيقة أن التحقيقات التي أُجريت حول فعالية هذه البرامج، بما في ذلك البرامج المتفائلة والأكثر شعبية، لم تكن مغرية تماماً منذ البداية. وعلى سبيل المثال، فقد أشار التقرير النهائي عن فعالية برنامج الجوانب الاجتماعية والعاطفية للتعلّم (SEAL) بجرأة إلى فشله على جميع الأصعدة:”، ويفضي تحليلنا لبيانات التلاميذ إلى استنتاج مفاده أن برنامج الجوانب الاجتماعية والعاطفية للتعلّم (SEAL) لم يكن له تأثير كبير على مهاراتهم الاجتماعية والعاطفية، وعلى صحتهم العقلية والصعوبات التي يمكن أن يواجهوها في هذا الصدد، وعلى سلوكياتهم الاجتماعية وغير الاجتماعية، وعلى مختلف مشاكلهم السلوكية بشكل عام23“. وقد خلصت تقارير أخرى عن برامج أخرى – ركزت بوجه خاص على مفهومي المرونة النفسية وضبط النفس- إلى غياب أي تأثير إيجابي على تعليم التلاميذ المعنيين. وقد أشارت كل هذه التقارير إلى عدم وجود نتائج ملموسة، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بالتنبؤ بالسلوك المستقبلي للطفل أو المراهق: “في حين أن قدراً كبيراً من الأدلة يؤكد وجود علاقة إيجابية بين الصورة التي يكوّنها الشخص عن نفسه والنتائج المباشرة لمثل هذه الصورة عن الذات، وقليلة هي الأدلة التجريبية التي تؤكد وجود علاقة إيجابية بين الصورة التي يكوّنها المرء عن نفسه والنتائج المباشرة لهذه الصورة عن الذات، وقليلة هي الأدلة التجريبية التي تؤكد العلاقة السببية المباشرة24“. وفي أفضل الأحوال، يتبين أن المفاهيم المعنية والأدلة التي تستند إليها هذه البرامج غير حاسمة ومفككة، كما تؤكد إكليستون. “وفي أسوأ الحالات، فإن الأمر لا يتعلق سوى بالمرافعة حول قضيتك عبر تغليفها بخطاب علمي أو بـمنافسة برامج أخرى في السباق من أجل نيل المساعدات العامة25“.
وقد زعم بعضهم أن حركات مثل علم النفس الإيجابي ستكْسب من الناحية العلمية إذا ما أدرك أصحابها حقاً خلفيتهم التاريخية والثقافية وكذلك حساسياتهم الأيديولوجية والفردية26. ولو أننا اعتقدنا أن أمراً كهذا يمكن أن يحدث، فقد كنا سنوافق على هذه الحجة بكل سرور. لكننا لا نعتقد ذلك.وفي الواقع – وهذا هو السبب الرئيسي – تكمن قوة علم النفس الإيجابي تحديداً، في إنكاره لهذه الخلفية وهذه الافتراضات الأيديولوجية: إذ من خلال تقديم نفسه كعلم غير سياسي، يمكن أن يكون ذا فعالية عالية باعتباره أداة أيديولوجية. كما يشير جيف شوجرمان (Jeff Sugarman):
رفض علماء النفس الاعتراف بأنهم كانوا متواطئين في تكوينات اجتماعية وسياسة محددة. وفي الواقع، لو اعترفوا بأمر كهذا، فإنهم سيدمرون المصداقية القائمة على حياد مزعوم يفترض فيه أن يكون مضموناً بالموضوعية العلمية، ورفض إصدار أدنى حكم أخلاقي حول موضوع العمل. ونتيجة لذلك، وكما يُظهر الأرشيف التاريخي، فقد اشتغل علماء النفس في المقام الأول، من خلال الحفاظ على الوضع الراهن، بوصفهم “مهندسي التصحيح”، وليس كقوى فاعلة في التغيير الاجتماعي والسياسي27.
تنطبق ملاحظة كهذه على دعاة علم النفس الإيجابي وأيضاً على اقتصاديي السعادة الذين تعتمد قوتهم الثقافية، وسلطتهم العلمية والاجتماعية، على قدرتهم في جعل رؤية العالم الفردي والنفعي والعلاجي في التوجه النيوليبرالي رؤية قابلة للحياة على المستوى العالمي، وبالتالي خلق إمكانيةٍ لأن تكون هذه الرؤية مرغوبة من طرف الأفراد والمجتمعات على السواء.
هوامش:
* إيفا اللّوز (Eva Illouz): باحثة في علم الاجتماع. ولدت في مدينة فاس سنة 1961، من أصول يهودية مغربية. تحمل إيفا الجنسيتين الفرنسية والإسرائيلية.وهي في الوقت الراهن،مديرة دراسات في معهد الدارسات العليا في العلوم الاجتماعية بباريس (EHESS)، وتدرّس أيضاً علم الاجتماع في الجامعة العبرية في القدس. تتمحور أعمالها حول تسليع المشاعر أو ما تسميه بـ “الرأسمالية العاطفية”. ومن أهم أعمالها مشاعر الرأسمالية (سوي 2006)، وكتاب: ماذا يؤلم الحب؟ (سوي 2012، وبوانت 2014)، واستبداد السعادة (بروميي باراليل 2018). وقد ترجمت أعمالها إلى العديد من اللغات.
**إدغار كاباناس (Edgar Cabanas): باحث إسباني حاصل على دكتوراه في علم النفس (جامعة مدريد المستقلة). يدرّس حالياً في كاميلو خوسيه سيلا (مدريد). كما أنه ملحق بمعهد ماكس بلانك في برلين. تتمحور أعماله حول الاستخدامات السياسية والاقتصادية والاجتماعية لفكرة السعادة، كما يتصورها، ويصوغها و«يسوقها» علم النفس، وعلم النفس الإيجابي على الخصوص.
.
1- مارتن سليجمان (Martin Seligman): باحث أمريكي في علم النفس (جامعة بنسلفانيا). يعتبر المؤسس الفعلي لعلم النفس الإيجابي عام 1998، بعد خطاب ألقاه حول الموضوع بمناسبة انعقاد الملتقى السنوي للجمعية الأمريكية لعلم النفس. (المترجم).
– ريتشارد لايارد (Richard Layard): اقتصادي انجليزي. أسس سنة 1990 مركز الأداء الاقتصادي بكلية لندن للاقتصاد. تتمحور أعماله وانشغالاته حول مواضيع: اقتصاد السعادة، والرفاه، والصحة النفسية. (المترجم).
2- Seligman, Flourish, 2011, p. 164 [Nous citons ici la traduction française de l’ouvrage en l’amendant légèrement : S’épanouir, 2006. (N.d.T.)].
3- The Global Happiness Council, Global Happiness Policy Report 2018, New York, 2018 (p.69) <s3.amazonaws.com/ghc-2018/GlobalHappinessPolicyReport2018.pdf>.
4- Jack Martin et Ann-Marie Mclellan, The Education of Selves. How Psychology Transformed Students, New York, Oxford University Press, 2013.
5- Cité dans J. Sugerman, «Neoliberalism and Psychological Ethics», 2015, p. 112.
6- <ipositive-education.net/mouvement/>.
7- The Global Happiness Council [Global Happiness Policy Report 2018].
8- Richard Layard et Ann Hagell, «Healthy Young Minds, Transforming the Mental Health of Children», in J. Helliwell, R. Layard et J. Sachs (dir.), World Happiness Report, New York, Sustainable Development Solutions Network, 2015, p. 106-30.
9-Martin E. P. Seligman et al. «Positive Education. Positive Psychology and Classrom Interventions», Oxford Review of Education, 35, 3, 2009, p. 293-311. (p.295) <doi.org/10.1080/03054980902934563>.
10-Mark T. Greenberg et al., «Enhancing School-Based Prevention and Youth Development through Coordinated Social, Emotional, and Academic Learning», American Psychologist, 58, 6-7, 2003, P. 466-74 <doi.org/10.1037/0003-066X.58.66-7.466>.
11- K. Reivich et al., «From Helplessness to Optimism. The Role of Resilience in Treating and Preventing Depression in Youth», in S. Goldstein et R. B. Brooks (dir.), Handbook of Resilience in Children, New York, Kluwer Academic/Plenum Publishers, 2005, p. 223-237.
12- Lea Waters, «A Review of School-Based Positive Psychology Interventions», The Australian Educational and Developmental Psychologist, 28, 2, 2011, p. 75-90 <doi.org/10.1375/aedp.28.2.75.> ; Seligman, Flourish, 2011.
13- N. J. Smelser, «Self-Esteem and Social Problems. An Introduction», in A. M. Mecca N. J. Smelser et J. Vaconcellos (dir.), The Social Importance of Self-Esteem, Berkeley, University of California Press, 1989, p. 1-23.
14- الـمود دجي. واي. إم. (MoodGYM) هو برنامج علاج سلوكي معرفي (CBT). مصمم لمساعدة المستخدمين على التعرف على المشاعر الصعبة والسيطرة عليها، مثل مشاعر القلق والاكتئاب، من خلال تعلم مهارات التأقلم الجيدة. (المترجم).
15- Alison L. Calear et al., «The YouthMood Project. A Cluser Randomized Controlled Trial of an Online Cignitive Behavioral Program with Adolescents», Journal of Consulting and Clinical Psychology, 77, 6, 2009, p. 1021-1032 <doi.org/10.1037/a0017391>.
16- Patricia C. Broderick et Stacie Metz, «Learning to BREATHE. A PILOT Trial of a Mindfulness Curriculum for Adolescents», Advances in School Mental Health Promotion, 2,1,2009, p. 35-46 <doi.org/10.1080/1754730X.2009.9715696>.
17-Kathryn Ecclestone et Dennis Hayes, The Dangerous Rise of Therapeutic Education, Londres et New York, Routledge, 2009.
18-Ibid, p.164.
19- N. J. Smelser, «Self-Esteem and Social Problems», 1989, p.1.
20-Nathaniel Branden, «In Defence of Self», Association for Humanistic Psychology, 1984, p. 12-13 (p.12).
21- Roy F. Baumeister et al., «Does High Self-Esteem Cause Better Performance, Interpersonal Success, Happiness, or Healthier Lifestyles ?», Psychological Science in the Public Interest, 4, 1, 2003, p. 1-44 (p.1) <doi.org/10.1111/1529-1006.01431>.
22- Ibid, p.3.
23-Neil Humphrey, Ann Lendrum et Michael Wigelsworth, Social and Emotional Aspects of Learning (SEAL) Programme in Secondary School. National Evalution, Londres, 2010, p. 2.
24-Leslie M. Gutman et Ingrid Schoon, The Impact of Non-Cognitive Skills on Outcomes for Young People. Literature Review, sLondres, 2013 (p.10) <vl.educationendowentfoundation.org.uk/uploads/pdf/Non-cognitive_skills_literature_review_1.pdf>.
25- Kathryn Ecclestone, «From Emotional and Psychological and Well-Being to Character Education. Challenging Policy Discourses of Behavioural Siecnce and “vulnerability”», Research Papers in Education, 27, 4, 2012, p. 463-480 (p. 476) <doi.org/10.1080/02671522.2012.690241>.
26-Kristjan Kristjanson, Virtues and Vices in Positive Psychology. A Philosophical Critique, New York, Cambridge University Press, 2013.
27- J. Sugarman, «Neoliberalism and Psychological Ethics», 2015, p.115.
*أستاذ باحث في الدراسات السردية، الرباط