الأدب الروسي يتميز بازدهار الأدب الساخر فيه، ويطلق عليه تسمية أدب العدسة المكبّرة، وينمو ويزدهر في مراحل التحولات الثوريّة.
تعد الكتابة الساخرة من أصعب الأنواع الأدبية، فهي تحتاج قدرات خاصة لا تتاح للكثيرين ممن يمسكون بالقلم، ويرى المترجم السوري د. نزار عيون السود في السخرية سلاحا ذاتيا، يستخدمه الفرد للدفاع عن جبهته الداخليّة ضد الخواء والجنون المطبق، إذ إن السخرية، رغم هذا الامتلاء الظاهر بالمرح والضحك والبشاشة، إلا أنها تخفي خلفها أنهاراً من الدموع.
ويضيف في مقدمة كتابه ”القصة القصيرة الروسية الساخرة” (الصادر حديثا عن دار المدى العراقية): “حين تلامس الجرح، وتظهر العيب وانت ترسم الابتسامة على وجه القارئ باستخدام ألفاظ تجعله يضحك فأنت تسخر، وحين يضحك الموجوع من ألمه ويعيش واقعه بضحكة تخفف عنه آلامه ويضع حلولاً ولو بالاحلام فهو يسخر، وحين نعبر عن حالة رفض للواقع دون الاصطدام أو خلق مواجهة مباشرة مع السلطة فنحن نسخر”.
ومن حيث المضمون يتسع الأدب الساخر لنقد أي موضوع من مواضيع الحياة العامة والخاصة، كالمواضيع السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها. فمجاله واسع بلا حدود. والسخرية فن شعبي، قريب من الجماهير ومواضيعها من صميم حياتهم وهمومهم واهتماماتهم، وأنها سلاح الضعيف في مواجهة الطغاة والنفاق والفساد.
ومن حيث عناصره الفنية والشكلية يتميز الأدب الساخر بمجموعة عناصر منها: كسر ظاهرة اللفظ وتكثيفه باستخدام لغة غير تقليدية، مجازية، مزدوجة المعنى تبعث على الطرافة، بحيث تتحول الكلمة إلى حركة مع مراعاة السلاسة والوضوح، إضافة الى القدرة على التخيل وطرح المغزى بين سطور الموضوع بعيداً عن المباشرة في الطرح، والإلغاز المؤدي إلى إثارة تفكير القارئ وحدسه ودفعه لإدراك الفكرة بعيداً عن طرحها المباشر. وتضخيم العيوب وجوانب الضعف التي يسخر منها الكاتب بتهكم لاذع يتحاشى التهجم والتعرض للاشخاص بالسب أو الشتم أو القذف والقدح، فهذا يدخل في باب الاستهزاء وليس الأدب الساخر. واستخدام النقائض والمفارقات والمتضادات، فقد نضحك من الألم حين يصل الجرح إلى أقصى مداه، وأخيراً بث عناصر التشويق باقتباس قصة خفيفة معروفة أو مثل شعبي أو بيت من الشعر.
أدب العدسة المكبّرة
ويرى المترجم كذلك أن الأدب الروسي يتميز بازدهار الأدب الساخر فيه، ويطلق عليه تسمية أدب العدسة المكبّرة، وهو عادة ينمو ويزدهر في مراحل التحولات الثوريّة، فمن الملاحظ في الآداب عامة، أن ازدهار السخرية والفكاهة وانتشار التورية والعبارات القارضة والتلميحية والمبالغة يتزامن أكثر ما يتزامن مع مراحل التحولات الثورية والتغيرات الاجتماعية الكبيرة والانتقال من نظام اجتماعي – سياسي إلى نظام آخر، ولم يشذ الأدب الروسي عن هذه القاعدة. فقد ازدهر الأدب الروسي الساخر والقصة الروسية القصيرة الساخرة تحديداً، وانتشر انتشاراً واسعاً في السنوات العشر الأولى التي أعقبت ثورة اكتوبر 1917، وكذلك في أعقاب “البيريسترويكا” وانهيار الاتحاد السوفييتي في الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين.
لذا راعى المترجم أن يختار لكتابه نماذجا من ذلك القصص في مرحلتيه، فمن مرحلة العشرينيات والثلاثينيات اختار نماذجا من إبداعات تسعة كتاب بلغ عددها 25 قصة قصيرة، موضحا أنه في العشرينيات نهل الكتاب الروس من الفولكلور الروسي والإبداع الشعبي الشفاهي، وكذلك من التقاليد الأدبية الكلاسيكية الساخرة، العميقة الجذور في الأدب الروسي، كما في بعض أعمال غوغول وشيدرين وسالتيكوف، وتشيخوف، بينما تميزت فترة الثلاثينيات، بتعاظم الديكتاتورية الستالينية، وعلى الإبداع عموما وعلى الأدب الساخر خاصة، ففي العام 1931 تم إغلاق عدد كبير من المجلات الأدبية الساخرة، وقد شنت حملة تضييق واسعة ضد الكثير من الكتاب منهم زوشنكو الذي توقف نهائياً عن الكتابة، بعد أن تم طرده من اتحاد الكتاب السوفييت ولم يستعد عضويته به إلا بعد رحيل ستالين وانتهاء حقبته وآثارها.
بلا ألوان
ضمت المختارات عشر قصص لميخائيل زوشنكو (1894 – 1958)، الذي حققت له مجموعته الأولى الصادرة في 1921 “حكايات نزار إيليتش” شهرة كبيرة وأكدت تميزه في مجال القصة الساخرة فأعيد طبعها في العام التالي، وتوالت مجموعاته حتى بلغت 25 مجموعة في أقل من عشر سنوات، قبل أن تطاله القبضة الستالينية الخانقة. ولم يختر شخصياته من بين قادة الحزب ولا دعاة الإشتراكية، بل اهتم بالبسطاء والعاديين من مواطني روسيا بعد ثورة 1917، واستخدم لغتهم التي تختلف كثيراً عن تلك التي كانت سائدة في العهد القيصري، فشخصيات قصص زوشينكو يتحدثون جميعا نفس اللغة التي تختلف عن لغات الشرائح التقليدية في مجتمع ما قبل البلاشفة، فهم يتحدثون بلغة مشتركة زاخرة بالألفاظ العامية الشائعة، وهي لغة الراوي أو البطل الرئيس في أغلب أعمال الكاتب الذي قال عن نفسه “لست شيوعياً، ولا أنتمي إلى أي حزب، وليست لدي أية أيديولوجيا”، واختار شخصيات تشبهه فسهل مهمة خصومه من النقاد الرسميين فاتهموه بتشويه الواقع واصطناع لغة لا يتكلم بها أحد في المجتمع السوفيتي الحديث. بينما تمثل دفاعه في تأكيده على أن قصصه لا تعادي المجتمع بل تصوره كما هو بكل ما فيه من قبح دون أن يحاول تلوينه بألوان ليست له.
سخرية جديدة
القسم الثاني من الكتاب يضم ثماني عشرة قصة قصيرة لستة من الكتاب ظهرت إبداعاتهم في فترة الثمانينيات والتسعينيات، ويرى المترجم أن أدب الثمانينيات في روسيا، تأثر بالتغيير الإيديولوجي الناتج عن فكرة إعادة البناء السياسي والإجتماعي التي حملها غورباتشوف تحت مسمى البيريسترويكا، والتي تلاها سقوط نظام الحكم في الإتحاد السوفيتي في التسعينيات. ونشوء مجتمع روسي جديد رأسمالي نوعا ما، أوليجاريشي منفتح إلى أبعد الحدود، بل ومتحلل في بعض جوانبه.
كما يبدو في النماذج المختارة وخصوصا في قصص ميخائيل جفانيتسكي التي يعدها المترجم مثالا للأدب الساخر الجديد بل أنه يعد فترة ما بعد البريسترويكا من الفترات النادرة والفريدة في مجال الادب الساخر والقصة الروسية القصيرة الساخرة والانتقادية الفكاهية.
وميخائيل جيفانتسكي الذي يضعه الكتاب في مكانة تماثل مكانة زوشنكو من مواليد مدينة أوديسا الساحلية 1934، وعمل مهندسا بحريا بالميناء لسبع سنوات قبل أن يستقيل مقررا التفرغ للكتابة ابتداء من عام 1964، وهو ممثل وكاتب مسرح ، وأسس في عام 1988 مسرح موسكو للمنمنمات الفنية. بالإضافة لشهرته في كتابة القصة الانتقادية الساخرة، وله فيها إثنتا عشرة مجموعة منشورة، كلها ظهرت بعد البريسترويكا مثل قصص “الثورة الجنسية” و”في الحياة الزوجية” و “إلى الأسفل كالحلزون”، فكأن القصص القصيرة الساخرة تحتاج لقيام ثورة لتزدهر، فبعد ثورة 1917 وجدت ضالتها في تناقضات المجتمع الإشتراكي الجديد، وبعد القمع الستاليني عاشت فترة كمون حتى انهار الاتحاد السوفيتي وانهارت معه القيود فعادت السخرية للازدهار. (خدمة وكالة الصحافة العربية)